خطبة الجمعة 20 ذي الحجة 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: تنمية الاعتزاز بالإسلام

ــــ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:143].
ـــــ نزلت هذه الآية الشريفة في وسط الحديث عن تغيير قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام... فبعد أن أثار يهود المدينة شبهة عدم استقلالية الإسلام في تشريعاته، وأنها نوعُ انتحالٍ لشريعة اليهود، بدليل وحدة القِبلة، أخذت هذه الشبهة مأخذها من المسلمين، وأحدثت بلبلة فكرية شديدة، يمكننا أن ندرك حجمها من خلال قوله تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء) في تصويرٍ لحال النبي (ص) المنتظِر لنزول ما يُنقِذ الموقف.
ـــــ وهذا ما حصل: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة:144].
ـــــ وبعد تغيير القِبلة أثار اليهود شبهة أخرى تتلخّص في عدم إمكانية نسخ أحكام الشريعة ما دامت من عند الله عزوجل، لأن الجاهل بالأمور هو الذي يغيّر قراراته وقناعاته وأحكامه، فكيف يمكن تصوّر ذلك بحقّ الله، والحال أننا نؤمن بأنه بكل شيء عليم؟
ــــ وزُلزِل المسلمون من جديد، وارتبكوا، فكانت معالجة هذه الشبهة في قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:101].
ـــــ وهل يجهل اليهود هذه الحقائق؟ (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ) [البقرة:144-145]. فالمسألة من جهتهم مسألة عناد وجحود لا أكثر.
ـــــ ولم تكتف الآيات الشريفة بمعالجة موضوع القبلة ونسخ التشريعات، بل وكشفت للمسلمين نقطة ضعفهم التي من خلالها يسهل للآخرين أن يقتحموا قناعاتهم، ليشككوا فيها ما شاءوا، ولينجحوا في ذلك بأقل مجهود.
ـــــ نقطة الضعف هذه تتلخص في ابتلاء المسلمين بنوع من فقدان الثقة بالهوية وبالانتماء إلى الإسلام، وإلى القرآن، وإلى الرسالة المحمدية.
ــــ ومن هنا بدأت الآية 143 بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) لقد جعل الله تعالى هذه الرسالة محل الوسط والمحور والقطب من الرحى.
ـــــ أي أن في هذه الرسالة من المقوّمات ـــــ ومن خلال مفرداتها الفكرية، وفي تشريعاتها، وتعاليمها الأخلاقية ـــــ ما يجعلها في موقع المرجعية بكونها المقياس الذي يقيس به الآخرون متبنّياتهم وتشريعاتهم، لا العكس.. ليكون المؤمنون بها محطّ أنظار الآخرين.. لا العكس.
ــــ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) هذا الامتياز يؤهّلكم (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءعَلَى النَّاسِ).. فلماذا انقلبت الصورة لديكم بحيث أصبحتم تقيسون صحة ما لديكم من تعاليم ومتبنيات فكرية وتشريعات من خلال ما لدى الآخرين؟
ـــــ ومتى ما أردتم التأكد من استقامتكم في التزامكم بهذه الرسالة فارجعوا إلى رسول الله (ص) وقيّموا أنفسكم من خلاله: (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).
ــــ وبذا تتناغم هذه الآية مع قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران: 110]، لا بمجرّد الانتماء إلى الإسلام، بل عند الالتزام بتفاصيله.
ــــ وتتناغم مع قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) بعلوّ قواعده الفكرية وتعاليمه وتشريعاته (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الفتح:28].
ــــ ولابد من التنبيه إلى أن التأكيد على هذه الحقيقة وترسيخها في النفوس ليس لغرض الاستعلاء على الآخرين واحتقارهم، ولذا خطّأ الله اليهود والنصارى حيث قال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[البقرة:113].
ـــــ كما وبيّن واحدة من الآثار السلبية لهذا الاستعلاء: (قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران:75] أي أبيح لنا فعل المحرّمات من خيانة الأمانات وغير ذلك ما دام الآخر ليس منّا.
ــــ بل إن الغاية مِن ذِكر حقيقةِ مرجعيةِ الإسلامِ وقِوامتِه على سائر الأمم أن يمتلك المسلمون الثقة بالرسالة وبالانتماء وبالهوية بما يمكّنهم من الانطلاق بقوة في الدعوة إلى الله تعالى، وفي ردّ الشبهات والإشكالات التي يثيرها الآخرون عليهم.
ـــــ هذا الخلل الذي عانى منه المسلمون آنذاك وسبّب لهم الارتباك الفكري، مترسّخٌ بقوّة في وجدان شريحة كبيرة من شبابِنا هذا اليوم.. ويتمثّل في الانبهار بالغرب أو الشرق.
ــــ لذا، فإنَّ شبابَنا اليومَ بحاجة إلى جُرعات فكرية مركّزة من الاعتزازِ بهويّتنا الإسلامية والثقةِ في الانتماء إلى مدرسةِ الإسلامِ العظيمة، وإلى ترسيخِ حقيقةِ أن الله اختار للمؤمنين بهذه الرسالة ــــ متى ما التزموا جادةَ الإسلامِ بمفرداتهِ الفكريةِ وبتشريعاتِه وتعاليمِه الأخلاقية ــــ أن يكونوا بمثابةِ القطبِ مِن الرَّحى، والمرجعيةَ الفكريةَ والتشريعيةَ والأخلاقيةَ التي يقيس من خلالها الآخرون ما لديهم، في ذات الوقت الذي يتمُّ فيه التأكيدُ على عدمِ تحوّلِ هذا الشعورِ بالعزةِ والثقةِ بالرسالةِ والانتماءِ، إلى حالةٍ من الاستعلاءِ والاستكبارِ على الآخرين، أو حالةٍ من الاستغراقِ في الاستهزاءِ بمتبنّياتِهم وأوضاعِهم.. بل أن يكون سبباً للانطلاق بقوةٍ وثباتٍ وعزمٍ في الدعوةِ إلى هذه الرسالةِ وردِّ الشبهاتِ عنها: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف:108].