خطبة الجمعة 28 ذي القعدة 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: الحج جسد وروح

(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يأتينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج : 26 – 27].
ــــ ذكرتُ في الأسبوع الماضي أن للعبادات والأعمال الصالحة جسداً وروحاً، والجسد كيفية أداء العبادة والعمل، وأما الروح فأهداف العبادة والعمل الصالح وغايات تشريعها.
ــــ وعليه، فالحج جسد وروح، والآية السابقة أشارت بشكل إجمالي إلى جانبٍ من روح الحج: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ).. فما هي هذه المنافع؟
ـــــ في حديث عن الإمام علي الرضا (ع) أنه قال في جانب منه: (إنما أُمِروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزوجل...).
ــــ يعيش الحاج أجواءً روحية مميزة في العلاقة بالله عزوجل من خلال الطواف، والصلاة، والسعي، وتلاوة القرآن، والدعاء لله سبحانه عند بيته المحرم، وفي عرفات، وفي المشعر الحرام، وفي منى، وفي إقباله على التوبة والاستغفار وطلب العتق من النار.. أي أنه يراد للحج أن ينمّي الجانب الروحي لدى الإنسان في دورة مكثّفة.
ـــــ إقبال الإنسان على متطلبات الحياة الدنيا تستغرق أغلبَ وقته واهتماماته.. وهذا خطأ وخطر في نفس الوقت.
ــــ نحن نؤمن بأن هذه الحياة ليست نهاية المطاف، بل هي المعبَر للحياة الممتدة في الآخرة.. وتحديد نوعية الحياة الآخرة يعتمد على ما نقدّمه في هذه الحياة استعداداً لها.
ـــــ فإذا استغرق الإنسان في متطلبات الحياة الدنيا، ومن أجل الحياة الدنيا، على حساب الإعداد للحياة الآخرة، فقد أخطأ الطريق، وأدخل نفسه في خطر المصير البائس الذي سيندم عليه في الآخرة.
ــــ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9]... احذر أيها الإنسان أن تستغرق في متطلبات هذه الحياة.
ــــ الالتهاء بطلب الرزق، ورعاية الممتلكات، وتلبية حاجات الأبناء، يجب أن لا يكون على حساب البناء لمصيرك الأخروي.. طلب الرزق أمر مطلوب.. رعاية الأبناء أمر مطلوب.. ولكن يجب أن يكون ذلك كلُّه باعتدال، وبالتوازن مع حاجات الحياة الآخرة.
ــــ ولذا قال تعالى بعد هذه الآية: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون:10].
ـــــ هذا من متطلبات الآخرة... فهل من مجال لتأخير الموت وإفساح المجال أمام إعادة برمجة حياتنا؟ تجيب الآية التي بَعدها: (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:11] .
ــــ الحج يبرمج لك حياتَك.. يقدّم لك نموذجاً من الحياة الروحية التي تعطيك زخَماً روحياً وتُعوّض شيئاً من النقص في هذا المجال بسبب الالتهاء الذي اعتدنا عليه.. كما أن هذا البرنامج يوضّح لك كيف يمكن أن تعيد برمجة حياتك لتُحقِّق فيها شيئاً من التوازن المفقود.
ـــــ فلنلاحظ الآيات التالية من سورة البقرة وهي تتحدث عن الحج:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ .... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ... فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ .... ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا.... وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) [197-203].
ــــ لاحظوا تكرار ذكر الله في المناسك والمواقع المختلفة من أعمال الحج.
ـــــ هذه التنمية الروحية التي يُراد تحقيقها في الحج من أبعاد الحج وغاياته.. أي من روح الحج.
قيمة حجنا ترتفع بالعناية بهذا البُعد .. وكلما زادت عنايتنا به كلما ارتفعت قيمةُ حجِّنا .. وكلما قلّت، تأثّرت قيمةُ حجِّنا بذلك ونقُصت. من الممكن أن يُسقِط الإنسان تكليفَ الحج بسهولة.. ولكن أن يجد لحجِّه أثراً ووزناً في الآخرة فهذا أمرٌ مختلف.