خطبة الجمعة 29 شوال 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لا راحةَ لحسود

ـــ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[المائدة:27-30]
ــــ تحكي هذه الآيات قصةُ أولِ حالةِ حسدٍ في تاريخ ذرية آدم وحوّاء.. لتصدُقَ بذلك هواجسُ الملائكة حيث قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30).
ــــ وقبل الحديث عن الحسد نتوقف قليلاً عند التساؤل التالي: بما أنه تبيّن أن الملائكة كانوا مُحقّين في هواجسهم، فلماذا إذاً خلق الله الإنسان وهو الذي يعلم مسبقاً ما يمكن أن يحدث؟
ـــــ الإجابة السريعة على ذلك أنه قد تكون هناك بعض المفاسد في ما يحدث في هذا الوجود، سواء أكانت من الحوادث الطبيعية، كالزلازل والبراكين، أو في فِعل الكائن المختار كالإنسان؛ إلا أننا يجب أن لا نغفل عن المصالح الكامنة فيها، والحاصلة منها.
ــــ فاستمرارية الكرة الأرضية بوضعها الحالي واستمرار الحياة عليها بحاجة ماسة إلى هذه البراكين والزلازل.. وهذا أكثر أهمية من التأثيرات السلبية التي تجري عند وقوعها.
ــــ وهكذا فإنَّ الخيرَ الكامنَ في الوجود الإنساني أكبرُ مِن الشرِّ في وجوده.
ــــ في النظام الكوني لا تجد خيراً إلَّا ومعه شر.. كما لا تجد شراً إلاَّ وهناك خير في داخله.. فإذا غلب جانبُ الخير على الشرِّ، كانت الأفضلية في الوجود على العدم.. أما لو تغلّب الشر على الخير كانت الأفضلية للعدم على الوجود.
ــــ ونعود إلى أصل الموضوع، والمرتبط بالحسد.. ولا نتكلم هنا عن العين.. بل عن تمني زوال النعمة ممن يمتلكها، أو التمنّي مع فعل ما من شأنه زوالها، كما فَعل قابيل، فبقتله لأخيه تجلّى حسدُه في أبشع صورة.. فلماذا الحسد؟ وما منشؤه؟
1. البعض يقول أن ردّة الفعل الطبيعية والتي ينبغي أن نتوقعها من الإنسان عندما يشاهدُ الثراء الذي يرفل به البعض، أن يشعر بالحسد، لا الاحترام!!
ـــــ بالطبع نحن كأتباع للمدرسة الإسلامية لا نستطيع أن نوافق على ذلك، لأننا إذا قلنا بطبيعية أن نحسد الآخرين في مثل هذه الحالات، فإن هذا يعني أن الحسد ينبع من الفطرة الإنسانية، بينما نحن نعتقد أن الله خلق الإنسان على فطرة سليمة، والعوامل التربوية والبيئية ومتغيرات الحياة هي التي تغيّر في هذه الفطرة، وتدفع بالإنسان إلى الشرور.. والحسد واحدة منها.
ــــ نعم، ما نستطيع أن نقوله هو أن هذا هو التقدير الطبيعي لحال الإنسان حين يتخلى عن التقوى، ويغيب عقله وضميره، ويستسلم لأهوائه وللأنا المتضخّمة في وجوده.
ــــ قدم المحلل النفسي (سافيريو توماسيلا) مؤلف كتاب (كيف أتصالح مع ذاتي؟) صورة بديعة للحالة النفسية للحسود، قال: (الأمر هنا يتعلق بإدمان التملك. إنه مثلُ بئرٍ بلا قعر، يتمنى صاحبُها لو يضعُ فيها كلَّ شيء وأيَّ شيء تقعُ عليه عينُه، لكنه مهما وضع فيها لا تمتليء أبداً، حتى يصلَ إلى درجةِ أن يفقد كلُّ شيء معناه، وحيث لا يبقى مكانٌ للجوانب الروحية).
ــــ وقريب من هذا الكلام تعبير النبي الأكرم (ص) حيث قال: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفَ ابنِ آدم إلا التراب).
2. يعود الحسد في كثير من حالاته إلى سوء فهم لطبيعة الفروقات بين الناس وفلسفتها، كما قال الله: ( أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32).
ــــ أي أن وجود الفروقات بين الناس من أجل أن تتوزع المهام والوظائف بينهم الناس لتتكامل صورة الحياة من خلال ذلك.
3. يمكن أن يعود الحسد إلى سوء تقدير حال الآخرين، حين نتغافل عن الصعوبات التي يواجهونها ونركّز على جانب التنعّم، ونتناسى ما نتقاسمه جميعنا في هذه الحياة من مشتركات.
4. نسيان الآخرة والتركيز على هذه الحياة من العوامل المهمّة في بروز الحسد، فهذه الحياة في نهاية المطاف حياة عابرة لا تعدو أن تكون مجازاً لحياة آخرى.
ـــــ إن الذي يعيش الحسد بصورة متكررة بحاجة إلى أن:
1ـ يفهم ما قدّمت من فلسفة الحياة والفروقات فيها.
2ـ يعزّز الثقة بالله سبحانه وبتقديره للأمور، أي أن يعيش حُسن الظن بالله وأن يعيش القناعة. والتسبيح بحمد الله عن وعي من وسائل تحقيق ذلك.
3ـ يقوّي ثقتَه بنفسه وبقدراته، وينمّي الإيجابيات التي يمتلكها ويوظّفها في الاتجاه الصحيح، ويركّز على نقاط القوة التي يمتلكها، والنعم الكثيرة التي يرفل فيها ويتناساها.
4ـ يعكس اتجاه اهتمامه وحبه لذاته، فإذا كان الإنسان الحاسد ينطلق في ذلك من حبه لنفسه، فإن اتجاهه نحو الحسد خطأ، لأن الحسد يضر به ولا يعود عليه بالنفع الحقيقي، أما الاتجاه الصحيح المتناغم مع حبه لذاته فيكون بالطمأنينة والراحة النفسية، لأنه لا راحة لحسود، حتى قال علي (ع): (ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود، نفس دائم وهمّ لازم وقلب هائم).
ـــــ وهكذا يطل علينا من جديد الوجه القبيح لتطرف (الأنا)، كسببٍ رئيس من أسباب شقاء الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، الأمر الذي يستدعي بمن يهتمّ لمصيره ومستقبله أن يعالج موطن الخلل هذا، وأن يُطفيء النار المتقدة قبل أن تُحرق صاحبها تماماً، ولعل من أفضل السبل لتحقيق ذلك أن يعمّق الإنسان إحساسه بآلام الآخرين وحاجاتِهم وأوضاعِهم المأساوية، وما أكثرها في عالم اليوم، وما أيسر الوصول إليها في هذا العصر، وأن يمارس العطاء قولاً وفعلاً وإنفاقاً على المحرومين، ليعيش راحةَ النفس في رحاب العطاء، بدلاً من أن يستسلم لنار الحسد التي سرعان ما ستحرق كلَّ وجودِه، غيرَ مأسوفٍ عليه.