خطبة الجمعة 15 شوال 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: هل الأخلاق نسبية ومتغيرة؟


ـــــ من بين القضايا والأفكار التي يطرحها بعض الملحدين وأشباه الملحدين، مسألة نسبية الأخلاق وعدم ثباتها.. ولكي يتوضّح مفهوما النسبية وعدم الثبات، أقدّم الأمثلة التالية.
ـــــ تقف أمام القاضي في قضية ما كشاهد، فتشهد بالحقيقة، فيدخل المتهم بسبب شهادتك السجن... فعلك هذا ذو بُعد أخلاقي مرتبط بالصدق والكذب.. صِدقُك في هذا الموقف أمر حسن بالنسبة إليك، وقبيح بالنسبة إلى المتهم.
ــــ وتقف أمام القاضي في قضية أخرى كشاهد، فتشهد كاذباً، وتنقذ أباك من السجن.. يستحسن أبوك وأقرباؤك هذا الكذب.. أي أنّ حُسنَ الصدق والكذب أمرٌ نسبي.
ــــ تتعرّض للتهديد من قبل عدو، فتكذب وتستعمل التقيّة لتُنقذ نفسك وأسرتَك.. أليس في التقيّة والكذب في هذا الموقف دلالة على نسبية القيم الأخلاقية؟
ــــ وهكذا، تجد أن الأخذ بالثأر كان أمراً مقبولاً في زمن ما، بل مفخرة من المفاخر، وهو اليوم قبيحٌ في كثير من المجتمعات.. وحَسَن في بعضها، ولو على نطاق ضيّق.
ـــــ إذاً ــــ يقول أصحاب هذه المقولة ــــ لا وجود لقيم أخلاقية ثابتة، بل الأخلاق متغيرة بحسب الزمان والمكان، وبتغيّر الظروف أيضاً.. كما أنها نسبية في الحُسن والقُبح، لأن الأخلاق ـــ بحسبهم ـــ من صنع الإنسان، وهي ترتبط أيضاً بمصالحه الفردية.
ـــــ ومثل الصدق، بر الوالدين والأمانة والشجاعة والكرم والوفاء والعدل والتعاون.. إلخ.
ـــــ ولربما صنع مجتمع ما قِيَمَه الخاصة به.. فلا يصح حينئذ أن نفرض هذه القِيَم على مجتمع آخر، كما لا يصح أن نطالب ذلك المجتمع بالتخلي عن القيم الأخلاقية التي صنعها لنفسه.
ــــ في بعض المجتمعات من القبيح أن تعانق وتقبّل رجلاً على وجنتيه عند تحيته، بينما يُعتبر ذلك من الأمور الحسنة والدالة على حرارة الترحيب به.
ـــــ وبمرور الزمان أو تُبدّل الظروف، قد يغيّر نفس هذا المجتمع بعضاً من هذه القيم التي اختارها، لأنها أيضاً ليست ثابتة.
ــــ هذه الرؤية التي تبنّاها بعض الملاحدة برزت في القرن العشرين، ولكنْ لها أصول في الفلسفة اليونانية، ونوقشت في أطُر دينية وفلسفية واجتماعية عديدة.
ـــــ والحديث عنها ليس ترفاً فكرياً، بل هي مسألة حساسة تؤثّر على السلوك الإنساني، لأن بإمكاني أن أفعل ما أشاء وسيكون موصوفاً بالحُسن ما دام أنه في مصلحتي، ولم أتضرّر قانونياً، لضعف الرقابة أو التطبيق أو لانعدام القانون.. ولو بلغ الأمر قتل الأبرياء، ونهب الأموال، والغش التجاري وما إلى ذلك.
ـــــ بالإضافة إلى تأثيرها على مصير الإنسان في الآخرة بحسب معتقدنا كمسلمين، لأن الإنسان محاسب على أفعاله كما هو محاسب على إيمانه.
ـــــ إسلامياً، نحن نعتقد أن القيم الأخلاقية مطلقة وثابتة، لأنها نابعة من الفطرة الإنسانية، والفطرة طبيعة ثابتة لا تتغير ولا تتأثر بالزمان والمكان والظروف المتغيّرة.. فكيف نفسّر إذاً ما سبق؟
1.الأخلاق لا تقيم من خلال المنظور الفردي والمصالح الفردية، لأن أكثر القيم الأخلاقية مرتبط بالآخر وبالمجتمع وبالإنسانية وبالبيئة أيضاً.
2.هناك خلط بين الأخلاق والآداب، ولابد من أن نفرّق بينهما.
ــــ فالتعامل الحسَن مع الآخرين قيمة أخلاقية إيجابية، وأما التقبيل والمعانقة والمصافحة وأمثال ذلك فمن الآداب. وكلامنا عن القيم الأخلاقية لا عن الآداب والعادات والتقاليد، فالأولى ثابتة، والثانية قابلة للتغيّر بتغير الزمان والمكان والظروف.
3. هناك خلط أيضاً ما بين نسبية الأخلاق وتقديم الأولى عند التعارض.. فعند اللجوء إلى الكذب تقيّة لدفع ضرر محتمل من عدو، تكون مخيّراً بين قبيحين، الأول هو الكذب، والثاني هو التسبب في قتل إنسان مثلاً.. وأحدهما أشد ضرراً من الآخر.. ولذا فقد اخترت الأقل ضرراً.
ـــــ في هذا الموقف لم يتحوّل الكذب إلى قيمة أخلاقية إيجابية، ولا الصدق إلى قيمة أخلاقية سلبية، بل يبقى الكذب قبيحاً ولكنه أقل ضرراً وقُبحاً من التسبب في قتل إنسان بريء.
ـــــ ولذا فإنه بمجرد زوال الظرف الطاريء وتعود الأوضاع إلى طبيعتها لن تُمتَدَح على الكذب.
ــــ شهادة الزور والظلم المترتب عليه فعل أخلاقي قبيح على كل حال، ولو كان لتبرئة قريبٍ لي بالباطل.. فكون المتهم أبي أو أخي لا يحوّل شهادة الزور والظلم إلى فعل أخلاقي حسن، ولن يكون مبرِّراً مقبولاً للكذب.
ــــ وعندما أكون بين خيارين، البر والعدالة، كان تطبيق العدالة أولى من أي عنوان آخر، والذي يرشدني إلى معرفة الأولى قد يكون عقلي أنا، ولربما الحكماء من الناس، ولربما من خلال القرآن الكريم. ومن هنا ندرك أهمية مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135].
4. تحقيق العدالة بالاقتصاص من القاتل فعل ذو بُعد أخلاقي حسَن، مارسَته بعض المجتمعات في صورة الأخذ بالثأر على المستوى الشخصي، فكان حسناً وممدوحاً.. ونظّمته مجتمعات أخرى ضمن تشريعات قانونية وبوسائل محددة، فصار الأخذ بالثأر على المستوى الشخصي قبيحاً لتعارضه مع التنظيم القانوني، ولاحتمالية الوقوع في فوضى إجرائية من قبيل الإسراف في القتل: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) [الإسراء:33].
ــــ ولن يكون الفعل الصادر عن الفرد ممدوحاً عندما يعيش التمرّد على التشريعات القانونية المنظِّمة لسلوكيات الأفراد تجاه بعضهم البعض، حتى لو تصوّر هذا الفرد أنه يُحسِن صُنعاً عندما قيّم الأمور من منظور فردي، بينما المسألة لا ترتبط به فقط، بل وبالآخرين وبالمجتمع.
ــــ إن القيم الأخلاقية كالصدق والأمانة والعدالة وبر الوالدين وصلة الأرحام والشجاعة وحسن التعامل مع الناس قيمٌ مطلقةٌ وثابتة، غير متبدّلة بتبدّل الزمان والمكان والظروف، وهي فطرية من صنع الله تعالى، لتكون وسيلة لهداية الإنسان في هذه الحياة وتقويم سلوكه وتحقيق غاية من غايات وجوده: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13]. كما أنها لا تُقيَّم من خلال المنظور الفردي وبما يرتبط بي أنا فقط من منافع ومضار. وما دعوة الملحدين وأشباه الملحدين إلى القول بنسبية الأخلاق وعدم ثباتها إلا مَدخلاً لإقحام البشرية في حالة من الفوضى السلوكية على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية والأمنية والاقتصادية، وعودة إلى التخلف في السلوك الاجتماعي، علاوة على ما سيترتب على ذلك من مفاسد لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى.