خطبة الجمعة 8 شوال 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: أسياد العالم يتلاعبون بالعقول


ــــ قال تعالى: (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ، فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [الزخرف:51-54].
ـــــ بُعث النبي موسى (ع) ليهدي فرعونَ وقومَه، وليخرجَهم من ظلمات الشرك، والفساد، والباطل، والظلم وعبادة الأفراد والمخلوقات، والطبقية، إلى نور التوحيد، والصلاح، والعدل، والمساواة، والحق، والتحرر من عبودية الإنسان للإنسان، إلى عبودية الله وحده.
ــــ إلا أن فرعون حاول أن يلتفّ على هذه الدعوة المتناغمة مع الفطرة البشرية باستخفاف عقول الناس، معتبراً أن القيمة كلَّ القيمة في المادة، وأنه يتفوّق على موسى في هذا الجانب، مما يجعله أكرم وأعظم شاناً منه، والنتيجة أن الحق معه لا مع موسى!
ـــ بمثل هذا الطرح الذي عرَضته الآيات، وخلط فيه فرعون العاطفة بالمفاهيم المغلوطة، نجح هذا الطاغية.. وصدّقه الناس وانحازوا إليه، وعادوا موسى وحاربوه!
ــــ هذه التجربة الفرعونية مستمرة إلى اليوم.
ــــ للمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي قراءة لأسلوب مَن يُطلِق عليهم اسم (أسياد العالم) في التحكم عن طريق التلاعب في عقول الجماهير والتأثير النفسي فيهم من خلال الوسائل الإعلامية.. وقسّمها إلى 10 استراتيجيات، اخترت من بينها الخمسة التالية:
1ـ استراتيجية الإلهاء: حافَظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيداً عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، وألهَوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. أَبقَوا الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة ـــ أي مصدر رزقه أو مأواه ـــ مع غيره من الحيوانات الأخرى.. وتشومسكي ـــ بهذا ـــ يوحي إلى تركيزهم على البُعد الحيواني المادي في الإنسان، وإشغاله عن البُعد القيَمي في كيانه ووجوده وحياته.
2ـ اخلق المشكلة ووفر الحل: وذلك لتمرير قرارات معينة قد لا تحظى بالقبول الشعبي إلا في حضور الأزمة التي قد تجعل الناس أنفسهم يطالبون باتخاذ تلك القرارات لحلها! مثلاً: دع العنف ينتشر، وحينها سيطالِب الجمهورُ السلطةَ باتخاذ إجراءات وقوانين وسياسات أمنية تَحُد من حريته.. أو اختلق أزمة اقتصادية للقبول بحل ضروري، يجعل الناس يغضّون الطرف عن حقوقهم الاجتماعية وتردّي الخدمات العامة باعتبار أن ذلك الحل شرٌّ لابد منه.
3ـ استصغر عقول الجماهير وخاطبهم كأنهم أطفال: إذا تمَّ التوجه إلى شخص ما كما لو أنه لم يتجاوز بعد الثانية عشرة من عمره، فإنه يتم الإيحاء له بأنه فعلاً كذلك؛ وبسبب قابليته للتأثر، من المحتمل، إذن، أن تكون إجابته التلقائية أو ردُّ فعله مفرّغة من أيِّ حس نقدي كما لو أنه صادر فعلاً عن طفل ذي اثني عشر سنة.
4ـ استخدم الجانب العاطفي بدلاً من الجانب التأملي: وهو أسلوب تقليدي كلاسيكي للقفز على التحليل المنطقي والحس النقدي للأفراد، فاستخدام الجانب العاطفي يفتح المجال للعقل الباطني اللاواعي لغرس الأفكار والرغبات والمخاوف والقلق والحض على القيام بسلوكيات معينة.
5ـ حوّل التمرد إلى شعور ذاتي بالذنب: بسبب قصور التفكير وضعف القدرات وقلة الجهود المبذولة، فينغمس الناس في الشعور بالتدنّي الذاتي الذي يؤدي لحالة من الاكتئاب تحبط أي محاولة للفعل.
ــــ الإعلام الصهيوني ومن يواليه ويدور في فلكه يوظّف هذه الاستراتيجيات بشكل كبير في ما له علاقة بالقضية الفلسطينية.
ـــــ ولو أخذنا المفردة الثالثة منها على سبيل المثال، فسنجد أن الاستخفاف بالعقول في شأن القضية الفلسطينية لا يتوقف.. قبل أربعة أشهر تقريباً، كشفت منظمة التحرير الفلسطينية أن الولايات المتحدة ستَعرض على الفلسطينيين بناء قدس جديدة!
ــــ وكأنها تقول: دعوا القدس الحالية، فهي قديمة وفيها مشاكل كثيرة، وتعرقل عملية السلام.. دعوها ونحن نبدلكم بقدس أخرى خاصة بكم.. جديدة وتُبنى على أحدث طراز.
ــــ لاحظ إلى أي درجة يتم استخفاف العقل الفلسطيني والعربي والعالمي!
ــــ اليوم برز بعض الإعلاميين العرب بطرح آخر مضوا من خلاله في استخفاف العقل إلى أبعد الحدود، حيث أنسوا الناس حقيقة أبعاد القضية الفلسطينية، وصوّروا مشكلتنا طوال السنوات الماضية مع الصهاينة وكأنها مقصورة على عدم التمكن من الصلاة في المسجد الأقصى.
ـــ وحيث تمكّن بعض هؤلاء الإعلاميين العرب من الذهاب إلى القدس مكرراً والصلاة في المسجد الأقصى في تجربة (اندهشوا) فيها من شدة (الاحترام والترحيب) الإسرائيلي بهم.. لذا فإنَّ حلَّ المسألة الفلسطينية ـــ بحسبهم ـــ مسألة وقت لا أكثر، معتبرين أننا كنا نعيش وَهْم (العدو الإسرائيلي)، وأن الإسرائيليين في واقعهم ليسوا كما صوّرهم الإعلام العربي خلال عقود مضت.
ــــ ولنفترض الآن سيناريو قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالترحيب بكل المسلمين للقدوم إلى القدس والصلاة في المسجد الأقصى وزيارة المقامات والمشاهد فيها وفي بعض المناطق المجاورة، وأنها استقبلتهم بكل ترحاب وكرم ضيافة واحترام وتقدير.. يا ترى هل ستكون بذلك قد انتهت مشكلتنا مع الكيان الصهيوني الغاصب، وتم إغلاق ملف القضية الفلسطينية؟
ــــ نعم، إلى هذا الحد يحاول بعض الإعلاميين العرب اليوم استخفافَ عقولنا، والتحايلَ على ذاكرتنا، والتلاعبَ في الكلمات والمفاهيم، والضربَ على وتر المشاعر الدينية السطحية من أجل تمرير مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني ضمن حُمّى التسويق لجريمة صفقة القرن. وما الوعد الأمريكي ببناء قدسٍ بديلة للعرب إذا تخلّوا عن مدينتهم المقدسة، وما تقزيم القضية الفلسطينية لتكون بحجم إمكانية أداء الصلاة في المسجد الأقصى وزيارة المشاهد المقدسية إلا مثال من أمثلة التلاعب بالعقول وتسطيحها وتجهيل الناس حول قضاياهم الكبرى مما بات يُضخ بكثافة في الإعلام العربي لتمرير صفقة القرن وتهيئة الجماهير لقبول التطبيع مع الكيان الصهيوني، مع التركيز على منطقة الخليج العربي التي يرى الصهاينة في أمل الوصول إليها بطريقةٍ أو بأخرى حلُماً كبيراً يحقِّق لهم الكثير من المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية والسياسية والاستخباراتية، ومسؤوليتنا أن نواجه هذا التجهيل والتسطيح بالتوعية المستمرة، واستحضار الحقوق التاريخية للفلسطينيين، والتاريخ الإجرامي الحافل للصهاينة بحقهم وبحق كل من عانى منهم طوال العقود الماضية.