خطبة الجمعة 8 شوال 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: نجاسة الأرض أم جرح القلوب؟

في رواية أنه: (بال أعرابي في المسجد) وفي بعض الروايات أنه قصد ناحية في المسجد (فقام الناس إليه ليقعوا فيه) بالسب والشتم والزجر (فقال النبي (ص): دعوه) وفي رواية أخرى: [لا تُزْرِموه] أي لا تقطعوا عليه بوله، لأنه قد يتضرر، يتألم (وأريقوا على بوله سَجْلاً من ماء ـــ أو ذَنوباً من ماءِ ــــ) أي دلواً من ماء لتطهير الموقع المتنجِّس (فإنما بُعثتم ميسِّرين ولم تُبعَثوا معسِّرين). ثم دعا النبي (ص) الأعرابي فقال :(إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذَر، إنما هي للصلاة وقراءة القرآن).
ـــ بكل هدوء وحكمة، عالج النبي (ص) الموقف، دون أن يُلحِق بهذا الأعرابي الجاهل للأحكام الشرعية الأذى، وتم تطهير الموضع الذي تنجّس وكأنّ شيئاً لم يكن.
ـــ وفي رواية أخرى أنه: (كان يُؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة وليسميه فيأخذه فيضعه في حجره، فربما بال الصبي فيصيح به بعضُ مَن يراه، فيقول: لا تزرموا الصبي بولَه، فيدعُه حتى يقضي بولَه، ثم يَفرَغ مِن دعائه له وتسميتِه، ويَبلُغ سرورَ أهله فيه، لئلا يروا أنه تأذّى ببوله، فإذا انصرفوا غسَل ثوبَه بعده). فالقماش المتنجس يمكن تطهيره، ولكن هل يمكن إصلاح القلب المجروح؟ قد يصعب ذلك أحياناً، ولربما يبقى الجرح طوال العمر.
ــــ أتذكّر أنه في سنوات مضت، وخلال موسم الحج، أثار البعض إشكالية وقوف الحجاج من مقلدي سماحة المرجع السيد السيستاني في نفس اليوم الذي يقف فيه سائر المسلمين ومقلّدي سائر مراجع الدين، بحيث صار البعض يتصل ويبعث رسائل نصيّة عبر الهاتف، بل ودار بعضهم على حملات الحج ليقولوا للناس أن حجكم في هذا العام باطل وما إلى ذلك من آثار تستتبع البطلان.
ـــــ وللأسف، لم يشعر هؤلاء المتكلمون بأنهم يُفسدون فرحة الحجاج في أداء مناسكهم، بعد أن أنفقوا أموالهم وأتعبوا أجسادهم وهجروا أهليهم وراحتهم تقرّباً إلى الله تعالى، في الوقت الذي لم يُفتِ فيه نفس السيد السيستاني ببطلان حجهم، بل كانت المسألة احتياطية، وطلب من مقلّديه الرجوع فيها إلى مرجع تقليدٍ آخر، علماً بأن الغالبية العظمى من المراجع المعاصرين بين مفتٍ بوجوب متابعة سائر المسلمين في تحديد يوم الوقوف بعرفات، أو جواز ذلك على الأقل، وصحة الحج وإجزائه حتى مع العلم بوجود خطأ في تحديد يوم الوقوف.
ــــ بعض هؤلاء الحجاج أنفق ما جمعه على مدى أشهر ولربما سنين من أجل أن يحج، وبعضهم قد لا تواتيه الفرصة مجدداً للحج بلحاظ نظام القرعة في بلاده، أو لضيق ذات يده أو غير ذلك.
ــــ ولذا كان من المفترض بهؤلاء الإخوة أن يتريّثوا ويتحقّقوا وينطلقوا في موقفهم من مشاعر الإخوة الإيمانية وآدابها، وأن لا يعيشوا هواجسهم الشخصية ليُربِكوا بها أولئك الحجّاج، علماً بأنه لم تكن من مسؤوليتهم الشرعية أيضاً أن يفعلوا ما فعلوه.
ــــ وقد عشنا خلال الأيام الماضية التي أعقبت عيد الفطر المبارك إثارةً سلبية ـــ وللأسف الشديد ـــ مماثلة لهذه الحالة، ولها علاقة بمن أفطروا يوم الجمعة.
ــــ ما جرى هو أن عديداً من علماء المناطق التي تتّحد معنا في الأفق، وعدداً من مجالس علمائهم أيضاً أعلنوا في ليلة الجمعة بعد مناقشة الشهود والتأكد من صحة شهاداتهم، ثبوت هلال شهر شوال بناءً على الرؤية بالعين المجردة في مناطقهم.
ــــ ومَن اطمأنّ في الكويت وخارجها إلى هذه النتيجة أفطر، ومن لم يطمئن بقي صائماً.. ولكلٍّ عذره وحجّته التي يقدّمها بين يدي الله سبحانه.
ـــــ وقد مرّت بنا حالة مشابهة لذلك قبل سنوات، وتم الاتصال بالمرجعية وقيل لهم آنذاك كلٌّ يعمل بحسب اطمئنانه.. فما الذي تغيّر اليوم؟
ــــ إلا أن بعض المؤمنين ـــ وللأسف الشديد ــــ صاروا يلاحقون الذين أفطروا يوم الجمعة بالرسائل والاتصالات الهاتفية وغير ذلك، مشكِّكين في إفطارهم، ويُلزمونهم بضرورة القضاء والكفارة التوبة.. إلخ القائمة، مفسدين على الناس فرحة العيد، وباعثين في نفوسهم الشكوك والظنون.
ــــ أعزائي، ثبوت الشهر من عدمه تكليف شخصي. في منهاج الصالحين للسيد السيستاني مسألة 1043: (لا تختص حجية البينة ـــ شهادة العدلين ـــ بالقيام عند الحاكم، بل كل من عَلم بشهادتها عَوّل عليها، ولكن يُعتبر عدم العلم أو الاطمئنان باشتباهها) ثم تذكر المسألة أمثلة على موارد الاشتباه التي تُسقط الشهادة عن الحجية.
ــــ وبالتالي فإنّ الذين اطمأنّوا إلى ثبوت الهلال من خلال بيانات أولئك العلماء العارفين بالأحكام والمتثبّتين في النتائج التي توصّلوا إليها، فقد عملوا بتكليفهم، ولا داعي للتشكيك في قرارهم.
ــــ ثم هل من مسؤوليتنا أن نلاحق الناس ونُفسد عليهم عيدَهم بالاستفتاءات الموجّهة بطريقة خاصة وبالإثارة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ اعمل أنت بما تطمئن إليه وليعمل الآخرون وفق اطمئنانهم، وتخلّق بأخلاق رسول الله (ص) في مراعاة مشاعر الناس، فلو وقع وقع خطأ في تحديد العيد أمكن إصلاح ذلك، ولكن هل يُصلَح جرحُ القلوب؟
ـــ ونتطلّع إلى اليوم الذي يمتلك فيه هؤلاء الإخوة الأعزاء نفس الحماسة التي أبدوها هنا، ليوظّفوها في ملاحقة القضايا التي تمسّ دين الناس في العمق في فكرهم، وفي أخلاقهم، وفي سلوكياتهم؛ أو التي تمسّ مشاكلهم الاجتماعية والثقافية، سواءً بالتوعية، أو بتطوير وسائل التبليغ، أو بالنزول إلى ساحات العمل بكل طاقاتهم.. هدانا الله وإياهم.