خطبة الجمعة 24 رمضان 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: فلسطين.. بين التطفيف والنفاق السياسي

ـــ قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين:1-3]
ــــ في عالم التجارة، عندما لا يلتزم التاجر بنفس المعيار في شرائه وبيعه، فإنه يكون من المطفِّفين.. إذا اشترى استوفى حقَّه بمكيال كامل، وإذا باع استعمل مكيالاً آخر يَبخَس عن طريقه حقَّ المشتري ويغشّه به.. ولذا يقال: فلان التاجر يكيل بمكيالين.. هذا هو التطفيف.
ــــ وقد استعمل العرب مصطلح (الكيل بمكيالين) في دائرة أوسع من الدائرة التجارية، لتشمل كلَّ حالةٍ نجد فيها ازدواجيةً في المعايير..
ــــ ولذا فكما يوجد تطفيف تجاري، هناك تطفيف سياسي، وتطفيف اجتماعي، وتطفيف ثقافي، وتطفيف الإداري، وتطفيف قضائي.. إلخ، وكلها من صور الظلم وبخس حق الآخر.
ــــ في عام 1912 تم تعريف مصطلح الكيل بمكيالين أو ازدواجية المعايير/ المعايير المزدوجة ــــ بحسب التعبير المعاصر ـــــ في صياغته السياسية الحديثة كالتالي: (مجموعة من المباديء التي تتضمن أحكاماً مختلفة لمجموعة من الناس بالمقارنة مع مجموعة أخرى).
ــــ وبتعبير آخر، هناك معايير، يُحكم من خلالها على قضيةٍ أو تصرّفٍ ما بحكمٍ معيّن، إذا كان طرفها مجموعة من الناس؛ بينما إذا صار المعني بها مجموعة أخرى من الناس، غابت تلك المعايير، ليتغيّر الحكم بالتّبع.. وهذا من التطفيف.
ــــ وإذا أردنا أن نستبعد النظرة الدينية لهذا النوع من التطفيف، فإنّ الفقه القانوني الحديث يعتبر أن: جميع الأطراف يجب أن تقف على قدم المساواة أمام القانون.
ــــ ولذا فإن ازدواجية المعايير ممارَسة للظلم.
ـــــ وكذلك فإن ازدواجية المعايير انتهاك لمبدأ الحياد، والذي يقوم على أساس افتراض أن نفس المعايير ينبغي أن تُطبّق على جميع الناس.
ــــ كما أن ازدواجية المعايير تُمثّل نوعاً من التحيّز في القانون السياسي؛ والتحيز على أساس الطبقة الاجتماعية، أو العرق، أو الجنس، أو الدين، أو الجنسية، يمثّل نوعاً من أنواع التمييز.. وهو أمر مجرّم في القانون الدولي.
ــــ وقد يجتمع النفاق السياسي مع هذه الازدواجية والكيل بمكيالين، حين يدّعي طرف أنه ملتزم بمعايير معيّنة، ويطالب المجتمع الدولي بالتزامها، بَينما يستبطن ويمارس التمييز، وتغيب تلك المعايير في مواقفه متى ما كان الأمر يخصّ طرفاً ما، وهذا مِن أقبح صور الممارسة السياسية.
ــــ والقضية الفلسطينية اليوم من أبرز ضحايا هذه الازدواجية في المعايير والنفاق السياسي مجتمِعَين معاً.
ـــــ يُطرد الشعب الفلسطيني في غالبيته مِن وطنه وأرضه، ويُحرَم من ممتلكاته.. ثم يُضغط عليه دُولياً ليَدخل في مساومات وبدائل وبمنطق إن تقبل فذاك، وإلا فلا شيء لك عندنا.
ــــ ثم يتطوّر الأمر إلى التغاضي عن حق العودة وإهماله في ضمن جريمة (صفقة القرن) التي يُروَّج لها من قبل الإدارة الأمريكية الحالية.
ـــــ يا ترى.. لو كان الأمر لا يخص الشعب الفلسطيني، وليس طرفُه المعتدي اليهود الصهاينة، هل كانت المسألة لتتم بهذه الصورة؟
ـــــ ويتم الحديث طوال السنوات الماضية عن حلِّ الدولتين.. وأنها الوصفة السحرية التي تحمل معها الحلَّ للقضية الفلسطينية.. ويتم الضغط الدولي على الأطراف الفلسطينية والإقليمية للقبول بذلك، والدخول في مفاوضاتٍ يُطلق عليها أنها مفاوضات سلام.
ـــــ وفي عملية عسرة وُلد مَسخ أطلقوا عليه ظلماً اسم (الدولة الفلسطينية)، ولكنه في واقع الحال وجودٌ ليس له تعريف لا من الناحية القانونية ولا السياسية.. لا شكلاً ولا مضموناً.. لا حدوداً ولا سيادة.. لا حقَّ دفاعٍ عن النفس ولا قراراً مستقلاً.
ــــ وحتى هذا المولود المسخ صار يُستجدَى استجداءً من الصهاينة، ويُمَنُّ به على الفلسطينيين من حين إلى آخر ويُهدَّدون بإلغائه من الأساس، ويمارَس عن طريقه كل صور الابتزاز القبيح.
ـــــ يا ترى.. لو كان الأمر لا يخص الشعب الفلسطيني، وليس طرفُه المعتدي اليهود الصهاينة، هل كانت المسألة لتتم بهذه الصورة؟
ـــــ يُمسي المجتمع الدولي ويُصبِح على أنباء الجرائم والاعتداءات الصهيونية المتكررة على الإنسان.. على الأرض.. على الممتلكات.. لم يسلم الرضيع.. ولا الشيخ.. ولا المرأة.. ولا الطواقم الطبية.. ولا الإعلامية.. ولا مجموعات السلام الدولية.. ولا مؤسسات الأمم المتحدة.. ثم يكون أقصى ما يصدر عن كبار مسؤولي الأمم المتحدة بهذا الشأن مطالبة (إسرائيل) بضبط النفس وعدم استعمال القوة المفرطة!
ــــ وحتى ورقة التوت هذه التي تحاول الأمم المتحدة أن تَستر بها عورتَها حين تتعامل مع القضية الفلسطينية، تدخل في مساومات القوى الكبرى، حيث لابد من إدانة الفلسطينيين وتهديدهم لأنهم دافعوا عن أنفسهم، أو خرجوا في مظاهرات سلمية عند الحواجز الكهربائية والشائكة التي يحتجزهم خلفها الصهاينة.
ــــ فحق الدفاع عن النفس والتظاهر السلمي مسموح لكل أحد.. إلا ضد الصهاينة!
ـــــ يا ترى.. لو كان الأمر لا يخص الشعب الفلسطيني، وليس طرفُه المعتدي اليهود الصهاينة، هل كانت المسألة لتتم بهذه الصورة؟
والذي يؤلم اليوم أكثر من أي شيء، أن كثيراً من الأطراف العربية بما في ذلك النخب المثقفة والأحزاب السياسية ورجال الدين باتت تردّد مقولات إعلامية وسياسية لا تستهدف سوى القضاء على القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، وتصرِّح عن مللها وسأَمِها مِن استمرارية هذه القضية، وأنه لابد من الانتهاء منها بأية صورة، وطيِّ صفحتها، دون إبداء أيِّ اهتمام بحجم الظلم الذي سيقع بحق فلسطين والشعب الفلسطيني، بل وباتت تُحمِّل الفلسطينيين مسؤوليةَ الجرائم الإسرائيلية التي يستحي المجتمع الدولي من إنكارها ولا يجد مهرباً من التنديد بها. وهذه الأطراف العربية ــــ وهي تمارس الازدواجية السياسية والكيل بمكيالين ــــ ما عادت تشعر بالحاجة إلى النفاق السياسي الذي لربما كانت تتستّر به في أوقات ماضية، ليبرُزَ دورُ دولةِ الكويت الصامد في مجلس الأمن، وفي اجتماعات الاتحاد البرلماني الدولي، وكأنها تغرّد خارجَ السَّرب! ولكنْ، لاَ تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَىُ لِقِلَّةِ أَهْلِهِ.. كما قال أمير المؤمنين (ع)، وقد نجَحت الدبلوماسيةُ الكويتيةُ في أن تُسقط مشروعَ القرار الذي تقدمت به المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن والذي لم يَجد له مُؤيِّداً سوى صاحبتِه، وكشفت من خلال الفيتو الأمريكي لثاني مرة على مشروع القرار الذي قدّمته الكويت لتوفير الحماية الدولية للفلسطينيين عن التطفيف السياسي الذي تمارسه الإدارة الأمريكية بحق القضية الفلسطينية العادلة.. حتى قيل في مقام اللوم للكويت: (إن ما أقدمتم عليه لم تقم به دولٌ عربية كبيرة، ولم تُظهِر الموقف الذي أظهرتموه).. متناسين أنه لطالما كانت الكويت كبيرةً في مواقفِها، وإن كانت صغيرةً في مساحتها.
ويبقى يومُ القدس العالمي منبراً من المنابر التي يجب أن نحافظ عليها في تحمّلنا لجزء من المسؤولية تجاه قضايانا الكبرى، إحقاقاً للحق، وانتصاراً للعدل، وإرضاءً للضمير، وتقرباً إلى الله عزوجل.