خطبة الجمعة 17 رمضان 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الخير في كلمات أمير المؤمنين


ــــ لأمير المؤمنين علي (ع) حديث متنوع أيضاً عن الخير، وما يهمّني هنا هو معنى الخير عند علي (ع) على صعيد العلاقات الإنسانية، على أنه ليس بالضرورة أن تُستعمل هذه الكلمة في النص، بل يكفي أن تكون بعض مصاديق الخير مذكورة فيه.
أولاًـ حيث تستحكم المادة وتستحوذ على الإنسان حتى في تقييمه لنفسه وللآخرين، لتكون هي معيار النجاح والفشل، والفوز والخسارة، والسعادة والشقاء، ولتختصر الخير في المادة فقط، يؤكّد (ع) أن مفهوم الخير من جهة أشمل من ذلك، ومن جهة أخرى فإنّ بعض عناوينِ الخير ومفرداته غير المادّية مقدَّمة رُتبةً على مفردات وعناوين الخير المادّي.
ـــــ ففي قسم الحكم من نهج البلاغة أنه: (سُئِلَ عَنِ الْخَيْرِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: لَيْسَ الْخَيْرُ أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ، وَلَكِنَّ الْخَيْرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ، وَأَنْ يَعْظُمَ حِلْمُكَ وَأَنْ تُبَاهِيَ النَّاسَ بِعِبَادَةِ رَبِّكَ).
ــــــ والمباهاة هنا ليست بمعنى الترفّع على الناس والتكبّر، بل بالمعنى التالي: (فَإِنْ أَحْسَنْتَ حَمِدْتَ اللَّهَ، وَإِنْ أَسَأْتَ اسْتَغْفَرْتَ اللَّهَ، وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِرَجُلَيْنِ، رَجُلٍ أَذْنَبَ ذُنُوباً فَهُوَ يَتَدَارَكُهَا بِالتَّوْبَةِ، وَرَجُلٍ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ).
ثانياًـ خصلة الخير لا توجد وحيدة في الإنسان، فإذا كانت أخواتها كوامن، فلربما نحتاج إلى ما يبعثها من النفس ويحفّزها للفاعلية، ولذا قال: (إذا كان في رجل خَلّة رائقة فانتظروا أخواتِها).
ثالثاًـ خلال الخير يمكن اكتسابها أيضاً بواسطة الأجواء التي يعيشها الإنسان، تماماً كما أن خلال الشر تُكتسب بذلك، قال: (جالس أهل الخير تكن منهم.. اطلبوا الخير وأهله).
رابعاًـ قد يظنّ بك الناس خيراً في أمرٍ ما.. على المستوى الأخلاقي، أو العبادي، أو المعرفي أو السلوكي أو غير ذلك.. ولكنك تعلم من نفسك أنك لست كذلك.. فليكن حسن ظنّهم بك دافعاً لأن تكون كما ظنّوا بك: (ومَن ظَنّ بك خيراً فصدّق ظنه).
خامساًـ هناك نموذج من الناس يتهرّب من مسؤولية ما يتنعّم به من خير، ويُلقي بها على عاتق الآخرين.. الآخرون لديهم مال أيضاً لينفقوه على المحتاجين.. لماذا أنا؟ الآخرون لديهم وقت فراغ للمساعدة.. لماذا أنا؟ بادر لفعل الخير، فما لديك من خير إنما هو فتنة واختبار.. ولربما تفقده في يوم ما وتتحسر على الفرص التي فاتتك لنيل الثواب.
ــــ قال (ع): (افْعَلُوا الْخَيْرَ وَلَا تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً. فَإِنَّ صَغِيرَهُ كَبِيرٌ، وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنَّ أَحَداً أَوْلَى بِفِعْلِ الْخَيْرِ مِنِّي، فَيَكُونَ وَاللَّهِ كَذَلِكَ) أي تُسلب التوفيق أو القدرة على فعل الخير فعلاً وواقعاً (إِنَّ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَهْلًا فَمَهْمَا تَرَكْتُمُوهُ مِنْهُمَا كَفَاكُمُوهُ أَهْلُهُ).
ـــ وقال (ع) في مورد آخر: (الْفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الْخَيْرِ).
سادساًـ بادر إلى الخير.. وليكن فعلُ الخيرِ عندَك تلقائياً كلما وجدتَ له مورداً.. سواء أكان الخيرُ مالاً أو إرشاداً أو نصيحة أو علماً أو مساعدة بقوتك الجسدية أو غير ذلك.
ــــ لا تنتظر السؤال والطلب، فالطلب انكسار للطالب، فإذا بادرت لفعل الخير قبل الطلب حقَّقت أمرين، الأول، أنك ساعدت صاحب الحاجة، والثاني أنك حفظت له شيئاً من كرامته، ولم تدفعه إلى الشعور بِذُل الطلب. قال (ع): (للكرامِ فضيلةُ المبادرة إلى فعلِ المعروفِ وإسداءِ الصنائع).
سابعاًـ ومن الفكرة السابقة تتفرع هذه الفكرة، إذ أنّ مِن كمال فعل الخير مراعاة شعور المحتاج. يقول الحارث الهمْداني: (سامرتُ أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقلت: يا أميرالمؤمنين عرضت لي حاجة، قال: فرأيتني لها أهلاً؟ قلت: نعم يا أميرالمؤمنين، قال: جزاك الله عني خيراً، ثم قام إلى السراج فأغشاها وجلس ثم قال: إنما أغشيت السراج لئلا أرى ذل حاجتك في وجهك، فتكلم، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: الحوائجُ أمانةٌ مِن الله في صدور العباد، فمن كتَمها كُتبت له عبادة) وكأن الله يريد للإنسان أن يحفظ كرامته ولا يذل نفسه لأحد بطلب ما استطاع (ومَن أفشاها) فسأل حاجته من الناس (كان حقاً على مَن سمعها أن يُعينَه).
ثامناًـ وإمعاناً في حفظ كرامة المحتاج، وإغلاق احتمالات فتح باب الاحتقار والمنّ والتكسّب من خلال فعل الخير، يؤكّد الإمام (ع) على أن العامل للخير هو الأحوج إليه، قال: (أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه).
تاسعاًـ اجعل الخير لا الشر هو منبع أفعال الآخرين.. لا تُفسِّر أفعال الآخرين على أنها انطلقت بدوافع سلبية أو عن سوء قصد؛ وبذا تبني جسور الثقة بينك وبينهم، وبالثقة تعمر العلاقات. قال: (لا تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محتملاً).
عاشراًـ لا تستكثر فعل الخير الذي تأتي به، فإنه يبقى قليلاً في حجم ما أعطاك الله، والاكتفاء بهذا القليل إنكار لقدرتك العظيمة على العطاء. قال (ع) في وصف المتقين: (ولا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متِّهِمون، ومِن أعمالهم مُشفقون).
ــــ إنَّ شهرَ رمضان شهرُ الخير والبركة والرحمة، وقد أثنى الله تعالى على الذين يُسارعون في الخيرات، فكيف إذا كان الخير صادراً في شهر رمضان الذي تتضاعف فيه الحسنات... ولنتذكر قوله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).. فلنكن أولياءَ الله، لا أولياء الشيطان.. لقد وصف الإمام زين العابدين (ع) رسول الله (ص) بأنه قائدُ الخير إذ قال: (اللّهمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد أَمِينِكَ عَلَى وَحْيِكَ، وَنَجِيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبَادِكَ، إمَامِ الرَّحْمَةِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَمِفْتَاحِ الْبَرَكَةِ) فلنكن من قادة الخير على صعيد العطاء المالي والجسدي والعلمي والأخلاقي والتربوي، اتّباعاً لسنّته، واهتداء بهَديه، ولنبادر إلى كل ما هو خير. (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَوَفِّقْنَا فِي يَوْمِنَا هذا، ولَيْلَتِنَا هذِهِ، وَفِي جَمِيعِ أيّامِنَا، لاسْتِعْمَالِ الْخَيْرِ، وَهِجْـرَانِ الشَرِّ، وَشُكْـرِ النِّعَم) إنك سميع مجيب.