خطبة الجمعة 3 رمضان 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: من هو العدو ؟


ـــ (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة:52].
ــــ هل مرّ بنا في الأسبوع الماضي يوم (النكبة) أم يومُ (الإستقلال الإسرائيلي والاحتفال بالذكرى السبعين لإعلان دولة إسرائيل)؟
ــــ قد يبدو السؤال غريباً للوهلة الأولى، ولكن مَن يتابع الإعلام العربي، والأحداثَ التي مرّت خلال الأيام القليلة الماضي، ولاسيما في أجواء نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، يُدرك أنّ هذا السؤال في محلّه، ولابد أن يُطرح ويُجاب عليه بوضوح.
ــــ أمريكا نفّذت وعدَها، بل واستعجلت بنقل سفارتها إلى القدس، غير عابئة بكل الاحتجاجات والأصوات الرافضة على مدى الأشهر الستة الماضية منذ الإعلان عن نيتها القيام بذلك.
ــــ وتزامن ذلك مع يوم النكبة بالنسبة إلى العرب، ويوم الاستقلال بالنسبة إلى الإسرائيليين! ومع ارتكاب الصهاينة لأكثر مِن مَجزرة داخل قطاع غزة، بحقِّ المتظاهرين والمحتجّين العُزَّل خلال الأسابيع الماضية، وكان آخرها ستين شهيداً وثلاثة آلاف مصاب في يوم واحد، منهم 54 حالة موت سريري، و79 سيدة، 255 طفلاً ونحو 1359 مصاباً بالرَّصاص الحي!
ـــ فكيف كانت ردود الفعل في الأوساط العربية؟ لأول مرة وبشكل واضح وصريح، يبرّر بعضُ العرب إعلامياً حقَّ اليهود في القدس.. ويشارك بعضُ العرب ـــ وعلى ضفاف النيل ـــ في احتفال الصهاينة بما يسمّونه يوم الاستقلال.. ويدعو بعضُ العرب لاستغلال الفرصة التاريخية بما يُسمّى صَفقة القرن! الصفقة التي لا يُراد منها سوى تصفية القضية الفلسطينية.
ــــ جزءٌ من المشكلة اليوم ما ذكرتُه في مناسبة سابقة، وهو اختلالُ معايير تشخيص العدو، عن عمد أو عن جهل.
ــــ في البدء صار البعضُ يوجّه إلى أنّ الكيانَ الصهيوني ما عاد هو العدوُّ الأولُ والرئيسُ للأمة العربية.. ثم تقدّمنا خطوة وصار البعض يروّج إلى أنّ هذا الكيان ما عاد عدوّاً، بل هو في ما يرتكبه من جرائم قتل، واعتقالات، واحتلال، وبناء مستوطنات، وتدمير لأحياء فلسطينية، وتغيير لهويّةِ مُدُن.. في مقام الدفاع عن النفس!
ــــ وهكذا أصبحت مسألة تشخيص مَن هو العدو مسألة ضبابية ـــ على الأقل ـــ عند شريحة واسعة من الجماهير، في الوقت الذي حَسَمت فيه شريحةٌ أخرى أمرَها، فنزَعت صفة العدوّ عن الصهاينة... وهذا مكمن الخطر.
ــــ لاحظ أهمية تشخيص العدوّ في الآية التالية التي تتحدث عن المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون:4].
ــــ فالمسلمون صاروا ـــ في فترة ما ـــ في حيرة من أمرهم في كيفية التعامل مع هذه الشريحة التي تعيش بينهم، وتصلي وتصوم معهم، ولكنها شاذّة عنهم في القرارات المصيرية، وفي المنعطفات الحادة، وفي طريقة تعاملها مع الأوامر النبوية، وفي ولائها للمشركين واليهود المحاربين.
ــــ في غزوة بدر لم تشارِك هذه الشريحة في الحرب، وصارت تَشيع بين المسلمين أنّ قريشاً ستُبيد المسلمين المقاتلين لا محالة، بمن فيهم رسول الله (ص). وصدّقهم كثير من المسلمين، ولذا كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة إلى أهل المدينة حين جاء البشير بانتصار المسلمين، ولم يصدّقوه!
ــــ وفي أُحُد والخندق انسحب المنافقون في اللحظات الحاسمة وقبل المواجهة، وهم قرابة ثلث جيش المسلمين، وصاروا يبثّون الإشاعات، وتآمروا مع اليهود في أكثر من مشهد، وأشعلوا أكثر من فتنة في مجتمع المدينة، ثم أسسوا مسجداً ضراراً ليكون غطاءً لمؤامراتهم.
ــــ إلا أن أواصر النسب، والمصاهرة، والصداقات الممتدة في الزمن، علاوة على الظاهر (الإسلامي) الذي حافظوا عليه، جعل الصورة غائمة وضبابية عند البعض.
ـــ ولذا جاءت هذه السورة لتسلّط الضوء على أهمِّ ملامح هذه الشريحة الخطيرة، ثم بيّنت بكل وضوح أنّهم العدو وما هو الموقف منهم: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
ــــ عندما تُشخّصُ العدوَّ يتّضح هدفُك، ومسارُك، وآلياتُ المواجهةِ معه.. حينها تكون لك رؤية، وتعمل عن بصيرة.. والأمّة التي تفقد الرؤية والبصيرة ستتخبّط في الطريق، ولربما ينتهي بها المطاف أن تقع في أحضان العدو.
ـــ هذا التشخيص يجب أن ينعكس في وسائل الإعلام، وفي مناهج التربية، وفي خطابات المسؤولين، وفي عِظات علماء الدين، وفي بيانات ومواقف السياسيين.. أما إذا غاب ذلك، حينها تُصبح الأمة بلا هدف.
إنَّ يوم النَّكبة يجب أن يبقى يومَ النَّكبة، ومَن يروّج لعنوان يومِ الاستقلال الإسرائيلي، ويشارك في إحيائه، ويبرِّر الاحتلال الصهيوني للمدن والأراضي الفلسطينية، ويشرعن المجازرَ التي ترتكبُها آلةُ الحرب الإسرائيلية بحقِّ العُزَّل من أبناءِ غزّةَ والضفّة، إنما يرتكب جريمةً بحقِّ الأمةِ في حاضرِها ومستقبلِها. وهكذا.. يجب أن يبقى الكيانُ الصهيونيُّ هو العدوُّ الأوّلُ للأمّةِ بلا تمييعٍ ولا تلاعبٍ في الكلمات والمصطلحات.. ويجب أن نبقى مساندين وداعمين للقضيةِ الفِلسطينية.. ويجب أن تبقى القدسُ ـــ شرقيُّها وغربيُّها ـــ في قلوب العرب والمسلمين رمزاً للقضية مهما سعى البعضُ أنْ يضيّعَ هذه الحقيقة.. وحسناً فعلت دولة الكويت في تحرّكها وبيانها الصادر في مجلس الأمن الدولي بحق الجرائم الصهيونية الأخيرة، كما ونشدُّ على يدِ مجلسِ الأمةِ لإصدارِه بيانَ الإدانةِ لمجازرِ الاحتلالِ الإسرائيليِّ ولنقلِ السفارةِ الأمريكيةِ إلى القدس، مع تأكيدِه على أنّ القدسَ عاصمةُ فلسطينَ لا غير، ورفضِه الأطروحاتِ والمبادراتِ التي تدعو إلى تكريس الاحتلالِ الصهيوني. فلسطينُ قضيتنا الأولى، وستبقى كذلك.. والكيان الصهيوني عدوُّنا الأولُ، وسيبقى كذلك، والباطلُ ليس له مِن مصيرٍ إلا الزوال: (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).