خطبة الجمعة 25 شعبان 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: مخاطر نقض العهود والمواثيق


ـــ قال تعالى: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ) [الرعد:20].
ـــ وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) [المائدة:1].
ـــ وقال عز وجل: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء:34].
ــــ لدينا هنا ثلاثة مصطلحات: ميثاق وعقد وعهد، وبينها شيء من الاختلاف في المعنى.
ـــ فالعهد التزام من طرف واحد بأمرٍ ما، كأنْ يتعهّد شخص بأن لا يشرب السجائر بعد اليوم، أو بأن يتعهّد التلميذ بأن لا يُشاغب في الفصل.
ـــ بينا يُمثّل العقد التقاء إرادتين أو أكثر على إنشاء رابطة إلزامية على أمرٍ أو أمور محدَّدة، كالعقود التجارية من بيع وإجارة وأمثالهما.. وكالعقود الاجتماعية من قبيل عقد النكاح.. وكالاتفاقيات السياسية والأمنية والعسكرية وغيرها.
ـــ أما الميثاق فهو العهد والالتزام من طرف واحد مع التغليظ والتشديد من خلال القَسَم أو غيره، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...) [البقرة:83]... أو العقد والالتزام من طرفين مع التغليظ والتشديد من خلال القَسَم أو غيره، كما في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) [النساء:90].
ــــ وفي الاصطلاح المعاصر تُستعمل كلمة (معاهدة)، وهي في الحقيقة عبارة عن عقد أو ميثاق مرتبط بعقد، لأنها التزام من طرفين أو أكثر بأمرٍ أو أمور محدَّدة، وهذا هو مدلول صيغة (مفاعلة) التي تعني التفاعل من طرفين أو أكثر.
ــــ والوفاء بالعهود والعقود والمواثيق مما لا غنى عنه أبداً ــــ على مستوى الفرد والمجتمع ــــ ومن دونه تنهار العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية وغيرها، لتُصبح الحياة الإنسانية المشتركة جحيماً لا يُطاق.
ـــــ والفطرة الإنسانية تدعو للالتزام والوفاء بها، ولذا صاغت الأمم القوانين والدساتير والأعراف الوضعية بين الناس، وهذه من الرحمات الإلهية... كما أنّ مِن رحمة الله أيضاً بعباده أن بيّن ضرورة ذلك وشدَّد بشأنه في رسالات الأنبياء وفي الكتب السماوية إمعاناً في استحكامه.
ــــ وحيث يَعمَد البعض إلى نقض العهد أو العقد أو الميثاق عند تغيّر موازين القِوى، بما يعتبره مبرِّراً لإلغاء ما تمّ الاتفاق عليه من طرف واحد، لذا فقد شدَّد الله سبحانه على المسلمين عدم نقض العهود والاتفاقيات الأمنية حين تغيَّرت موازين القوى لصالحهم بعد فتح مكة، وتحقَّق النصر في حنين والطائف، ثم دخول الناس في دين الله أفواجاً.
ــــ فقد كان من السهل حينذاك التهام الأطراف الضعيفة مِن المشركين المعاهَدين والقضاء عليهم إن لم يدخلوا في الإسلام جَبراً؛ إلا أن الله نهى عن ذلك احتراماً والتزاماً بالعهد ما دامت أن تلك الأطراف لم تنقضه بصورة أو بأخرى: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:4].
ــــــ في صلح الحديبية اضطر النبي(ص) إلى قبول البند القاضي بأنه (مَن أتى محمداً مِنهم بغير إذن وليِّه ردَّه محمدٌ إليه. وأنه مَن أتى قريشاً مِن أصحاب محمد لم يردّوه)، فقد كان المسلمون بأمسّ الحاجة إلى مثل هذه المعاهدة بينهم وبين قريش، وقد أصرّت قريش على ذلك البند، فقبله.
ــــ وبعد مدّة هرب من مكة أبو بصير، واسمه عتبة بن أُسيد، وكان مسلماً مستضعفاً فيها، ولجأ إلى المدينة، ولحقه رجلان من قريش، فطلباه من النبي، فسلّمه التزاماً بالعهد، واحتجّ على ذلك بعض الصحابة، أنْ كيف يسلِّم النبي مُسلِماً إلى المشركين وقد يقتلونه أو يعذّبونه، ولكن النبي بيّن لهم التزامه بالمعاهدة، حتى إذا كان في بعض الطريق احتال أبو بصير على الرجلين وهرب منهما ولجأ إلى المدينة من جديد وقال: (يا نبيَّ الله، قد والله أوفى الله ذمَّتك. قد ردَدتني إليهم، ثم نجاني الله منهم). وكأنّه يحاول إيجاد مخرج شرعي للنبي بتفسير بند المعاهدة بهذه الطريقة.
ـــ رفض النبي (ص) تبريرَه، وبقي ملتزِماً بالمعاهدة، فهرب أبو بصير إلى الصحراء إلى أن نقَضت قريش المعاهدة بعد فترة قصيرة، وانجرّت الأمور إلى فتح مكة.
ـــــ لاحظ حُرمة العهود والعقود والمواثيق عند رسول الله (ص)، ووجوب الوفاء بها، سواء انتُفع بها أم جَلبت ضرراً، فإنَّ رعايةَ العدلِ ألزم وأهم مِن رعاية أية منفعة خاصة أو شخصية، ولذا قال سبحانه: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2].
ـــــ نعم، لو نقضَ أحدُ الطرفين عهدَه، فللطرف الآخر حينئذ حريّةُ نقضِه: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة:194].
ـــــ في أثناء الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية، ظهرت الإعلامية المعادية للإسلام (بريجيت غابرييل) لتتحدى بأنها ستهدم الإسلام في خمس دقائق، وقالت في ضمن كلامها أنّ النبي (ص) علّم المسلمين مبدأ الغدر في المعاهدات، وضربت صلح الحديبية مثالاً على ذلك.
ــــ ثم أضافت أن إيران وقّعت معاهدة مع الولايات المتحدة مدتها عشر سنوات كما وقّع النبي مع المشركين معاهدة لعشر سنوات وغَدَر بهم في سنتين.. وأنّ إيران ستفعل مثل ذلك!
ـــ وها هي الأيام تدور، ليتفاجأ العالم ويهتزّ بالقرار الأمريكي أحاديِّ الجانب بالانسحاب من اتفاق فيينا لمجموعة 5+1 حول البرنامج النووي لإيران، والذي تمّ التوصل إليه قبل ثلاث سنوات تقريباً، وبعد مفاوضات شاقة وتفصيلية دامت اثنين وعشرين شهراً.. ويأتي هذا القرار المُقلق إلى حدٍّ كبير ليقرَعَ في المنطقة مِن جديد طبولَ الحربِ والقتلِ والدمارِ واستنزافِ الموارِد وهدمِ البُنى التحتية، بعد أن كِدنا نرى تباشيرَ الأمنِ والسلامِ ولَملمةِ الجراحاتِ والبدءِ في مرحلةِ إعادةِ البناءِ والإعمارِ في العراقِ وسوريا وغيرهما من دول المنطقة.. واليد الصهيونية كما لا يخفى غير بعيدة عما يجري، وهي الرابح الأكبر من ذلك كله. وممّا يُعوَّل عليه لنزع فتيل الحرب أو التخفيف من حِدّة الأزَمة قيام بعض الأطراف الحكيمة بدورها في هذا الإطار، كما تجلّى ذلك في موقف دولة الكويت وسلطنة عمان قبل يومين، الأمر الذي يستدعي عدم المجاملة على حساب المصالح الكبرى ودرء المخاطر العظمى في ما لو تمّ جرّ المِنطقة إلى أتون حرب جديدة لا يَعلم آثارَها التدميرية على المدى الواسع إقليمياً وعالمياً إلا الله عز وجل.