خطبة الجمعة 18 شعبان 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الموازين القِسط


ـــ قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
ــــ استعمل القرآن الكريم كلمة (الميزان) في موارد عديدة إلا أن المتتبع لهذه الموارد يلاحظ أن الله حين يتحدّث عن ضرورة التعامل المُنصِف والعادل في عالم التجارة والاجتماع والسياسة وأمثال ذلك فإنه يستعمل الكلمة بصيغة المفرد، كما في قوله عز وجل: (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام:152].
ــــ وكما في قوله تعالى على لسان شعيب (ع): (وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [هود:85].
ـــ وفي المقابل فإنّه عندما يستعمل هذه الكلمة في ما له علاقة بالحساب الأخروي فإنّه يستعملها دائماً بصيغة الجمع، وذلك كما في الآية التي بدأتُ بها، وكذلك في الآيات التالية:
ــــ قال تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ) [الأعراف:8-9].
ـــ وقال تعالى: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون:102-103]
ـــ وقال تعالى: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) [القارعة:6-9]... فما هو السر في ذلك؟
ــــ من المحتمل أن المسألة لها علاقة بأنواع أعمال الإنسان، فميزان للعبادة، وميزان للأخلاق، وميزان للعطاء المالي، وميزان للعطاء البدني، وهكذا... هذا احتمال... ولكن هناك احتمال آخر له علاقة مباشرة بالعدل الإلهي.. ولتوضيح ذلك لابد من مقدمات:
ـــ المقدمة الأولى: أنَّ التعبير بالموازين ـــ في القرآن ـــ بالنسبة إلى الحساب الأخروي لا يرتبط بمجموع الناس، بل بكلِّ فردٍ على حِدة.. كل فرد له موازين.. (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ).
ـــ المقدمة الثانية: أننا مطالبون بالعدل وبالقِسط، وقد ذكرتُ مِن قبل الفَرق بينهما.. فالعدل أن تُعطي للناس حقوقهم ابتداءً، وحينها تكون عادلاً.. أما إذا قلنا (أنت مُقسِط) فهذا يعني أنك رفعت الظلم بعد وقوعه، و رَدَدت الحقَّ لأصحابه.
ـــ المقدمة الثالثة: الناس يتعاملون في ما بينهم في المجالات المختلفة على أساس الظاهر، وبحسب العادة لا يأخذون بعين الاعتبار الكثير من العوامل التي تؤثّر في مواقفهم وقراراتهم وردود أفعالهم.. فإذا سَعوا نحو تحقيق العدالة أو القسط، واعتمدوا على الظاهر والعوامل الظاهرية فسيكون مقبولاً منهم.. ومن هنا جاء التعبير بالميزان.. أي بصيغة المفرد.
ــــ أما بالنسبة إلى الله، عالِم الغيب والشهادة، فالأمر مختلف تماماً. فالله سبحانه وتعالى حين يحاسب الناس في الآخرة فإنه ينظر إلى كل العوامل الظاهرية والخفية التي أثّرت في ما ارتكبه الإنسان في حياته... ومن هنا جاء التعبير بالموازين.. أي بصيغة الجمع.
ـــ كلُّ إنسان يولد بمميزات وصفات تختلف حتى عن أخيه التوأم، ولهذه المميزات والصفات الخاصة بكل فرد تأثير على تصرفاته وردود أفعاله.
ــــ مثلاً.. يولَد الإنسان ويحمل معه جينات تجعله سريع الغضب والانفعال.. ويولَد الآخر ويحمل معه جينات تجعله هاديء الطبع بارد المزاج.
ــــ الله ـــ الذي لا يظلم الناس شيئاً ـــــ هل يمكن أن يحاسِب هذين الفردين بصورة مماثلة فيما لو صدر عنهما ردّ فعل متماثل في لحظة غضب أو انفعال؟
ـــــ هل يمكن أن يحاسب الله سبحانه الشاب الذي أخطأ فزنى كما يحاسب الرجل كبير السن المتقدم في العمر إن أخطأ وزنى؟ أليس في قول النبي (ص): (إن الله يبغض الشيخ) أي كبير السن (الزاني)، وفي قوله (ص): (ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)، دلالةً على الفرق بين مرتكب الزنى إنْ كان كبيراً في السن وبين الشاب لو فعل ذلك؟
ـــــ بالطبع هذا لا يعني أن الشاب معفيٌّ من العقوبة، ولكن الموازين الإلهية لا تساوي بينهما.. فلعنفوان الشباب وشدة القوة الغريزية مدخلية مؤثّرة في الأمر، على خلاف الرجل كبير السن.
ـــــ وهكذا الأمر بالنسبة إلى مَن يقع في المحظور وهو يعيش في مجتمعٍ ممتليء بالإثارة الغريزية، بينما يعيش الآخر في مجتمع محافِظ تندر فيه مثل تلك الإثارات.. هل يتساويان؟
ــــ ومثل ذلك، الفرق بين مَن تتوافر لديه القدرة على الحصول على المعلومة، ومَن يصعب عليه الحصول عليها.. والفرق بين مَن اطّلع على الثقافات المختلفة، ومَن عاش في مجتمع منغلق ثقافياً وأحادي الفكر.. والفرق بين مَن يمتلك سعة مِن الوقت للبحث والمطالعة، ومَن ضغطت عليه ظروف كسب الرزق فلم تعطه فرصة لذلك.. والفرق بين مَن وُلد في أسرة مؤمنة متدينة، ومَن وُلد في بيئة فاسدة فاسقة.. إلخ الصور والفرضيات التي تمتليء بها الحياة.
ــــ ثم إنَّ الفرد الواحد تختلف ظروفُه وقدراتُه مِن مرحلة إلى أخرى، ومِن عمر إلى آخر، ومِن مكان إلى آخر؛ ولا يمكن أن يكون ما صدر عنه في ذلك الظرف، أو في تلك المرحلة، أو في ذلك السن، هو بذات القيمة عندما يصدر عنه في ظرف أو مرحلة أو سنٍّ مختلِف.
ــــ هنا نفهم معنى الموازين في الآخرة.. فالعدل الإلهي يستدعي هذه الدقة.
ــــ وإذا كان أمرُ الحساب في الآخرة يتميّز بهذه الدقة على مستوى الأخذِ بعينِ الاعتبار كلَّ العوامل المؤثِّرة في أفعالِ الناس وتروكِهم كما يدل على ذلك قوله تعالى: (وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) وقوله تعالى: (وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)، (وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، فإنّ هذا يقودُنا إلى أنه ليس مِن حقّنا الحكم على الناس في مصائرهم الأخروية.. فالموازين لا يَعلمُها إلا الله.. ومِن العدل الإلهي أن تكون كلُّ العواملِ الوراثيةِ والبيئيةِ والتربويةِ والظاهرةِ والخفيةِ التي تدخّلت في كلِّ فعل أو ردّةِ فعلٍ صدرَت عن الفرد دورٌ في حسابه وتقييم عمله.. وغير خاف أن لا أحد يملك الإحاطة بكل تلك التفاصيل سواه عز وجل، وكما قال أمير المؤمنين (ع): (طوبى لمن شغلَه عيبُه عن عيوب الناس).. (كفى بالمرء شغُلاً بمعائبه عن معائب الناس).. (كفى بالمرء غباوة أن ينظر من عيوب الناس ما خفي عليه من عيوبه). وفي المقابل، فليس من حقِّ أحد أن يحتجَّ على ما جاء بخصوص العقوبات الأخروية بعد آمنّا بأنَّ الله هو العَدل، وأنه لا يحساب الناس إلا بالموازين القِسط، وقد قال سبحانه: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).