خطبة الجمعة 4 شعبان 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الصحيفة السجادية والباطل السياسي


ـــ وسأتحدث في الخطبة الثانية ـــ بإذن الله عز وجل ـــ عن أمثلة أخرى من الانحراف، وكيف واجهها الإمام زين العابدين (ع) في أدعتيه وبصورة رائعة.
ــــ عمل الإسلام على ترسيخ مفهوم أنّ المسؤول في السلطة خادمٌ للناس، ووسيلة تتحقق من خلالها العدالة الاجتماعية.
ـــ ولنلاحظ ما جاء في عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر حيث قال له: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى والزَّمنى) أي المعاقين (فإنَّ في هذه الطبقة قانعاً ومعترّاً. واحفظ لله ما استحفظك مِن حقِّه فيهم، واجعل لهم قِسْماً من بيت مالك، وقِسْماً مِن غَلّات صوافي الإسلام في كل بلد، فإنّ للأقصى منهم مثلَ الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقَّه، فلا يشغلنَّك عنهم بطَر، فإنّك لا تُعذَر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم) لا تقل إني أنجزت مهمات الأمور ومشغول بها عن الأمور البسيطة التي أهملتها وأن في هذا عذر لي (فلا تُشخِص همَّك عنهم، ولا تُصعِّر خَدَّك لهم).
ــــ ثم يوصي الإمام بتتبّع أحوال مَن لا يستطيعون أو يخافون أو لا يريدون الوصول إلى المسؤولين لسبب أو لآخر كعفة النفس أو لضعةٍ في نفوسهم: (وتفقَّد أمورَ مَن لا يصل إليك منهم، ممن تقتحمه العيون، وتحقّره الرجال، ففرِّغ لأولئك ثقتَك مِن أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه) أدّ مسؤولياتك تجاههم بحيث لو سألك الله في الآخرة وحاسبك على ذلك كنت تملك العُذر في جوابك بحيث تقدّم الدليل على أنك تحمّلت المسؤولية كما ينبغي (فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف مِن غيرهم، وكلٌّ فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه. وتعهَّد أهلَ اليُتم وذوي الرقّة في السن، ممن لا حيلة له ولا يَنصب للمسألة نفسَه، وذلك على الولاة ثقيل) مسؤولية كبيرة وفيها وجع رأس كثير (والحقُّ كله ثقيل، وقد يخفِّفُه الله على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم، ووثّقوا بصدق موعود الله لهم).
ـــ ولا يكتفي الإمام بالتوصية بتوظيف من يقوم بذلك، بل لابد للمسؤول بنفسه أن يقوم ببعض هذه المسؤولية ليكون قريباً من الناس، ولكي يعيش التواضع معهم، ويسمع من أصحاب المشاكل بأذنه، ليكون تأثّره أكبر، وانعكاس ذلك على قراراته أكبر: (واجعل لذوي الحاجات منك قِسماً تُفرِّغُ لهم فيه شخصَك، وتَجلسُ لهم مجلساً عاماً، فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتُقعِد عنهم جندَك وأعوانك من أحراسك وشُرَطِك، حتى يكلّمك متكلمُهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول الله (ص) يقول في غير موطن: [لن تُقدَّسَ أمةٌ لا يؤخذ للضعيف فيها حقُّه مِن القوي غير متتعتع]. ثم احتمل الخُرْقَ منهم والعَيّ) تحمّل كلماتهم القاسية ووقاحتهم فإنّ الحياة القاسية ومرارة العيش وتراكم الآلام تجرّؤهم على التهمة واتّباع الظنون والكلام العنيف (ونحِّ عنك الضِّيقَ والأنَفَ يَبسط الله عليك بذلك أكنافَ رحمتِه، ويوجبْ لك ثوابَ طاعتِه. وأعط ما أعطيتَ هنيئاً) دون منٍّ ولا احتقار ولا ندم وبرحابة صدر وشعور بالراحة، وأما إذا كانت طلباتهم في غير محلها أو لا تستطيع تحقيقها (وامنع في إجمالٍ وإعذار) بأن تذكر لهم الأسباب وتعتذر إليهم.
ـــ في مقابل هذه الصورة الرائعة، نجد الصورة الممسوخة التي رسّختها الدولة الأموية ومسَخَت من خلالها الشخصية الإسلامية، بتحويلهم إلى مستجدِين للعطاء من السلطة، فصار المسؤولون فيها أولياءَ النعمة عليهم، وأصحابَ الفضل عليهم، والمالكون الحقيقيون للنِّعم دون الله.
ــــ صورة يلخّصها المروي عن النبي (ص) والذي صحَّحه الألباني في موسوعته (السلسلة الصحيحة برقم744/ ج2 / 379): (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً، اتّخذوا دينَ الله
دخَلاً، وعبادَ الله خَولاً، ومالَ الله عز وجل دُوَلاً).
ـــ وهكذا صارت قلوبُ الناس ومشاعرُهم وألسنتُهم وأياديهم متوجّهة إلى المسؤول الأموي، وبحالة من الذل والمهانة، بدلاً عن التوجّه إلى الله سبحانه. ولنلاحظ هذا المشهد حين وُلّي عمر بن عبد العزيز ودخل عليه الشاعر جرير المعاصر للإمام زين العابدين (ع) فلما أوقف بعيداً قال:
إِنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا جَعَلَ الخِلافَةَ فِي الإِمَامِ العَادِلِ
وَسِعَ الخَلائِقَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ حَتَّى ارْعَوَى وَأَقَامَ مَيْلَ المَائِلِ
إِنِّي لَأَرْجُو مِنْكَ خَيْرًا عَاجِلاً وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ العَاجِلِ
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير! اتَّقِ الله، ولا تقولنّ إلا حقًّا.
فأنشأ جرير يقول شعراً في ذِكر الأرامل واليتامى من قومه، ومما قاله:
إِنَّا لَنَرْجُو إِذَا مَا الغَيْثُ أَخْلَفَنَا مِنَ الخَلِيفَةِ مَا نَرْجُو مِنَ المَطَرِ
إِنَّ الخِلافَةَ جَاءَتْه عَلَى قَدَرٍ كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
هَذِي الأَرَامِلُ قَدْ قَضَيْتَ حَاجَتَهَا فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الأَرْمَلِ الذَّكَرِ
ــــ وحيث لم يكن عمر بن عبد العزيز كسِواه من خلفاء آل أمية بكى، ثُم قال: (يا ابن الخطفي) لقب جده وكان شاعراً معروفاً (أمِن أبناء المهاجرين أنت فنعرف لك حقهم؟ أم من أبناء الأنصار فيجب لك ما يجب لهم؟ أم من فُقراء المسلمين فنأمر صاحب صدقات قومِك فيصلُك بمِثل ما يصل به قومَك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما أنا بواحدٍ من هؤلاء، وإنِّي لَمِن أكثر قوْمي مالاً، وأحسنِهم حالاً، ولكنِّي أسألك ما عَوَّدَتْنيه الخلفاء أربعة آلاف درهم، وما يتبعها من كسوة وحملان. فقال له عمر: كلُّ امرئ يلقى فِعلَه، وأما أنا فما أرى لك في مال الله حقًّا، ولكن انْتَظِر يخرج عطائي فأنظر ما يكفي عيالي سنة منه، فأدّخره لهم، ثم إنْ فضلَ فضْلٌ صرفناه إليك).
ــــ هذا النموذج من الشخصية الإسلامية الممسوخة قاومه الإمام (ع) في أدعيته، فقال فيما قال في الدعاء (الثامن والأربعين) من الصحيفة السجادية، وهو دعاؤه في (الأضحى والجمعة) وهما من أعياد المسلمين ويتوقّع فيهما العطايا من المسؤولين: (اللَّهُمَّ إلَيْكَ تَعَمَّدْتُ بِحَاجَتِي، وَبِكَ أَنْزَلْتُ اليَوْمَ فَقْرِي وَفاقَتِي وَمَسْكَنَتِي.... وَتَوَلَّ قَضَآءَ كُلِّ حَاجَة هِيَ لِيَ، بِقُدْرَتِكَ عَلَيْهَا، وَتَيْسِيرِ ذلِكَ عَلَيْكَ، وَبِفَقْرِي إلَيْكَ، وَغِنَاكَ عَنِّي. فَإنِّي لَمْ أُصِبْ خَيْراً قَطُّ إلاّ مِنْكَ، وَلَمْ يَصْرِفْ عَنِّي سُوءاً قَطُّ أَحَدٌ غَيْرُكَ، وَلاَ أَرْجُو لأِمْرِ آخِرَتِي وَدُنْيَايَ سِوَاكَ. اللَّهُمَّ مَنْ تَهَيَّأَ، وَتَعَبَّأ وَأَعَدَّ وَاسْتَعَدَّ، لِوَفادَةٍ إلَى مَخْلُوقٍ رَجاءَ رِفْدِهِ وَنَوَافِلِهِ، وَطَلَبِ نَيْلِهِ وَجَائِزَتِهِ، فَإلَيْكَ يَا مَوْلاَيَ كَانَتِ الْيَومَ تَهْيِئَتِي وَتَعْبِئَتِي، وَإعْدَادِي وَاسْتِعْدَادِي، رَجآءَ عَفْوِكَ وَرِفْدِكَ، وَطَلَبِ نَيْلِكَ وَجَائِزَتِكَ).
ــــ كما واجه الإمام (ع) الأمويين ــــ سياسياً ــــ من خلال هذه الأدعية، طاعناً في شرعية حكمهم، وموجِّهاً الناس إلى التمسك بأصحاب الحق الشرعيين، واختار لذلك الجمعة وعرفة والأضحى، ففي هذه الأيام يُخطَب في الناس، ويوجَّهون فيه لِلَعن علي (ع) والترويج لآل أمية، لذا قال (ع) في ضمن دعائه في (يومي الأضحى والجمعة): (اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا الْمَقَامَ لِخُلَفَائِكَ وَأَصْفِيَآئِكَ وَمَوَاضِعَ أُمَنائِكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ الَّتِي اخْتَصَصْتَهُمْ بِهَا، قَدِ ابْتَزُّوهَا وَأَنْتَ الْمُقَدِّرُ لِذَلِكَ، لاَ يُغَالَبُ أَمْرُكَ، وَلاَ يُجَاوَزُ الْمَحْتُومُ مِنْ تَدْبِيرِكَ، كَيْفَ شِئْتَ وَأَنَّى شِئْتَ، وَلِمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، غَيْرُ مُتَّهَم عَلَى خَلْقِكَ، وَلا لإرَادَتِكَ، حَتَّى عَادَ صَفْوَتُكَ وَخُلَفَاؤُكَ مَغْلُوبِينَ مَقْهُورِينَ مُبْتَزِّيْنَ، يَرَوْنَ حُكْمَكَ مُبَدَّلاً، وَكِتابَكَ مَنْبُوذاً، وَفَرَائِضَكَ مُحَرَّفَةً عَنْ جِهَاتِ أشْرَاعِكَ، وَسُنَنَ نَبِيِّكَ مَتْرُوكَةً).
ــــ وقال في دعاء (يوم عرفة) بعد الصلوات على النبي وآله بأنواع الصلوات، ومدح أهل البيت بأنواع المدائح: (اللَّهُمَّ إنَّكَ أَيَّدْتَ دِينَكَ فِي كُلِّ أَوَان بِإمَام أَقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبَادِكَ وَّمَنارَاً فِي بِلاَدِكَ، بَعْدَ أَنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ، وَجَعَلْتَهُ الذَّرِيعَةَ إلَى رِضْوَانِكَ، وَافْتَرَضْتَ طَاعَتَهُ، وَحَذَّرْتَ مَعْصِيَتَهُ، وَأَمَرْتَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَالانْتِهَآءِ عِنْدَ نَهْيِهِ، وَأَلاَّ يَتَقَدَّمَهُ مُتَقَدِّمٌ، وَلاَ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ مُتَأَخِّرٌ، فَهُوَ عِصْمَةُ اللاَّئِذِينَ، وَكَهْفُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُرْوَةُ الْمُتَمَسِّكِينَ، وَبَهَآءُ الْعَالَمِينَ).
ــــ وبعد أن يدعو لهذا الإمام بشتى الدعوات ــــ بعنوان أنه صاحب الحق الشرعي في القيادة الروحية والسياسية ـــ يدعو لأتباعه تأكيداً على أهمية موالاته: (اللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى أَوْلِيآئِهِمُ الْمُعْتَرِفِينَ بِمَقَامِهِمْ، الْمُتَّبِعِينَ مَنْهَجَهُمْ، الْمُقْتَفِيْنَ آثَارَهُمْ، الْمُسْتَمْسِكِينَ بِعُرْوَتِهِمْ، الْمُتَمَسِّكِينَ بِوَلاَيَتِهِمْ، الْمُؤْتَمِّينَ بِإمَامَتِهِمْ، الْمُسَلِّمِينَ لأمْرِهِمْ الْمُجْتَهِدِيْنَ فِي طاعَتِهِمْ، الْمُنْتَظِرِيْنَ أَيَّامَهُمْ، الْمَادِّينَ إلَيْهِمْ أَعْيُنَهُمْ، الصَّلَوَاتِ الْمُبَارَكَاتِ الزَّاكِيَاتِ النَّامِيَاتِ الغَادِيَاتِ، الرَّائِماتِ. وَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَرْوَاحِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى التَّقْوَى أَمْرَهُمْ، وَأَصْلِحْ لَهُمْ شُؤُونَهُمْ، وَتُبْ عَلَيْهِمْ إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ، وَاجْعَلْنَا مَعَهُمْ فِي دَارِ السَّلاَمِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ).
ــــ هذا أمثلة بسيطة من البحر الزاخر للصحيفة السجادية في مواجهة الباطل الفكري والسلوكي والقِيَمي والسياسي، حيث وظّف الإمامُ زين العابدين (ع) من خلالِه الدعاءَ ــــ بكل روحانيّته ومعانيه المرتبطة بالسماء وبالآخرة ـــ لمواجهة البِدَع الفكرية والسلوكية والسياسية التي انتشرت بقوة في زمانه، كصورة من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليقدِّمَ لنا من خلال صفاءِ الروح وروحانيةِ الكلمة: طهارةَ الفكرةِ في الإسلام، وقيمةَ العملِ الصالح في الحياة، وسلامَ المبدأ والغايةِ في العمل السياسي.