خطبة الجمعة 26 رجب 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لبس الفرو مقلوباً

قال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون].
وقال سبحانه: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ، إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ، وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ، لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ) [الحاقة:30-37].
وقال عزوجل: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر:42-47].
وقال عز اسمه: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد:11-16].
وقال تبارك وتعالى: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين:1-5].
ـــ هذه الآيات ومثلها آيات أخرى نزلت في العهد المكي، تذكر بالإضافة إلى الصلاة والإيمان بالله وبالآخرة عناوين مكررة تقريباً من الآثام والجرائم التي يرتكبها الإنسان، ويهدِّد الله بالعقاب عليها في الآخرة أشدَّ العقاب.
ــــ في ذلك الوقت، كانت أنواع المعاصي تُرتَكب في مكة، الزنا وأخواتها من الفواحش، شرب الخمر، المعازف والغناء، القمار... ومع هذا نجد أن الآيات لا تتعرض للحديث عنها، بل هي تركّز على المعاصي المتعلِّقة بحقوق اليتامى والمساكين والعبيد والغش التجاري، مع ربْط ذلك بالكفر بالآخرة.
ـــ ثم إننا لو رجعنا إلى الترتيب الزمني لنزول الآيات المتعلقة بالقمار والزنا وشرب الخمر ومخالفات الستر الشرعي للمرأة، لوجدناها قد نزلت في العهد المدني.. لماذا؟ ما هي الرسالة التي تريد هذه الآيات أن توصلها إلينا؟ ألا يحتاج الأمر إلى وقفة تفكّر حول نظرتنا للمعاصي ولو على مستوى الاحتمال؟
ــــ اليوم لو تَطْلب من أيَّ متديِّن أن يَضرب لك أمثلة على المعاصي وبشكل عفوي، فسيجيبك فوراً: الزنا، شرب الخمر، الغناء المحرّم، القمار... ولعله نادراً ما يتبادر إلى الذهن مثال أكل حقوق الناس، والغش التجاري، والظلم الاجتماعي، والعدوان على الضعفاء، وعدم مساعدة المساكين.
ــــ أنا لا أريد هنا أن أهوِّن من درجة المعاصي من قبيل الزنا وشرب الخمر والغناء المحرم والقمار وأمثال ذلك، ولا أدعو إلى التساهل في الاستجابة إلى الأوامر والنواهي الإلهية.. فالمعصية معصية، والحرام حرام.. والعقوبة الشديدة مُستحقَّة.
ـــ ولكن أريد أنْ أقول أنّ في تربيتنا الدينية والأخلاقية والشرعية ـــ كمسلمين عموماً ـــ تركيزاً على أمور، في مقابل التهاون والتراخي في أمور أخرى يبدو أنها أكثر أهمية عند الله، وأعظم، وأخطر، أو بنفس المستوى على الأقل.
ـــ اليوم الخطاب الديني الأخلاقي والشرعي عند المسلمين على اختلاف طوائفهم، وفي عمومه، لا يركّز على هذا الأخطر والأعظم.
ــــ وباعتقادي أن هذا أثّر حتى على أجندات الإسلاميين من أعضاء مجلس الأمة في أولوياتهم.
ـــــ بل وحتى على أجندات التكفيريين والمتطرّفين الإسلاميين وعلى نظام عقوباتهم حين تسنّى لهم أن يحكموا في المناطق التي سيطروا عليها في الحروب الأهلية في البلاد المختلفة، فقد حكموا بادّعائهم وفق الإسلام والخلافة الإسلامية.. فمن الذين عوقبوا؟ وعلى من أقيمت الحدود؟
ــــ للأسف هناك شواهد عديدة على أنّ شريحة يُعتدُّ بها من المتديّنين مَن تأتيهم فرصة متعلّقة بفساد مالي، أو يُطرَح عليهم افتراض أن تأتيهم مثل هذه الفرصة، فلا يتحرّجون، سواء أكان بصورة رشوة، أو المساهمة في غسيل أموال تجار المخدرات والأسلحة، أو التعدّي على خزينة المال العام، وما إلى ذلك... ويجدون ألف تبرير وتبرير للإباحة.
ــــ ومثلهم متديّنون مِن أهل الصلاة والصيام والصفوف الأولى في الجماعات مَن إذا تعلّق الأمر بحقوق الناس تهاونوا.. يأكلون حقوق الناس في الصفقات التجارية، وتنفيذ المشاريع والمقاولات، وفي المواريث، وغير ذلك.
ـــ نفس هذه الشرائح لو عُرض على أصحابها أن يستمعوا إلى الغناء، أو أن يرتكبوا الزنا، أو أن يشتركوا في لعبة فيها شبهة قمارية، أو أن يأكلوا من طعامٍ ما مشكوك التذكية، فإنك تجدهم في قمة التقوى، ويدخلون في أدق التفاصيل للاطمئنان إلى تجنّب الحرام.. وهذا ممتاز، ولكنه غير كاف، ولا تكتمل به فقط هوية الإنسان المتديّن.
ــــ على أنّ من المحتمل أنّ هذا الخلل في التربية الشرعية والأخلاقية عند المتديّنين له امتداد تاريخي بعيد، يعود إلى تلاقي مصالح بعض الحكام الفاسدين مع وعّاظ السلاطين، حيث تمّ التركيز والتشديد على بعض العناوين والتغاضي عن عناوين أخرى، بما يخدم في نهاية المطاف مصالح القوى الحاكمة الفاسدة آنذاك.
ــــ إنّ الظلمَ الاجتماعي، والغشَّ التجاري، وأكلَ حقوق الناس في التعاقدات الخدَمية، واستغلالَ الضعفاء، والفسادَ المالي والإداري، لا تقلّ قُبحاً عن الزنا والاستماع إلى الغناء وشرب الخمر ولعب القمار، إنْ لم تكن أشدَّ قبحاً وعقوبةً أخرويّة. وهذا ما يمكن أن نستشفَّه من تركيز السور المكية على نوعية محدّدة من المعاصي والجرائم في المجتمع المكي، على الرغم من أنّها لم تكن الوحيدة المنتشرة فيه حينذاك. وهذا ما يجب أن يدفعنا ـــ في العموم ـــ إلى إعادة النظر في خطابنا الدِّيني الشرعي والأخلاقي، لا من حيث الأسلوب فحسب، بل ومن حيث المضمون أيضاً.. وواحدة من العناوين التي بحاجة إلى إعادة نظر وتعديل هو ما له علاقة بنظرتنا إلى المعاصي، من حيث حضور بعض مفرداتها الغائبة عن الذهنية المتديّنة، أو الحاضرة بدرجة ضعيفة من القُبح لا تتحقق من خلالها التقوى عند الابتلاء بها، على الرغم من أنها ـــ بحسب ظاهر القرآن الكريم ـــ لا تقلّ سوءً عن كثير من المعاصي التي نتجنّبها، إنْ لم تكن أعظمَ وأكثرَ خطراً وأشدَّ عقوبة في الآخرة. ولعل في التجارب العديدة التي خاضها الإسلاميون وعايشناها على مرّ السنوات السابقة ما يكفي ليكون دليلاً على وجود مثل هذا الخلل الخطير الذي عبّر أمير المؤمنين (ع) عن جانب منه بقوله: (ولُبِسَ الإسلامُ لُبسَ الفَروِ مقلوباً).