خطبة الجمعة 19رجب 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: يوم الأرض.. الحق والمجزرة


(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ، إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة38-40].
ــــ الآيات السابقة نزلت في أجواء الإعداد لغزوة تبوك التي جرت في السنة التاسعة للهجرة، والمعنى الإجمالي لها واضح، ولكن لربما نستطيع أن نستخلص منها فكرة وقاعدة عامة.
ــــ حيث يمكن القول أن الآيات السابقة تُحمِّل المؤمنين مسؤولية قضاياهم العامة والكبرى، سواء أكانت مسؤولية عسكرية كما في الحالة المذكورة في الآيات السابقة، أو مسؤولية سياسية أو ثقافية أو غير ذلك. وتُبيّن أنّهم إنْ امتنعوا عن ذلك، فإنّ مآل الأمور ستكون وفق السيناريو التالي:
1ـ التأكيد على أنّ الله لا يَعجز عن تحقيق المطلوب، كما صنع في ليلة هجرة النبي الأكرم (ص) حين خلّصه مِن بين المجتمِعين حول بيته في مكة والذين استعدّوا للفتك به، فإذا به يَخرج مِن بينهم دون أنْ يشعروا بذلك، ليتمكّن بعد ذلك من الوصول إلى المدينة ضمن تفاصيل نعرفها.
2ـ إنزال العذاب الأليم: (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، وليس بالضرورة أن يكون العذاب الأليم في صورة ريح صرصر عاتية، أو رمي حجارةٍ من سجّيل، أو أن يجعل عاليها سافلها.. بل يمكن أن يكون بتسليط بعضِهم على بعض، وأن يُذيقَ بعضَهم بأسَ بعض: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام:65]. وأعتقد أن الصورة واضحة جداً.
3ـ الاستبدال بقومٍ آخرين أكْفاء، ولديهم الاستعداد لتحمّل المسؤولية وتقديم التضحيات.. سواء من مجتمع آخر، أو من جيل آخر، كما في قصة النبي موسى (ع) حين امتنع الجيل الذي عاصره عن تحمّل مسؤولياته، فقد قال:
ـــ (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فقط رجلان في مقابل عشرات الآلاف الذين (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ....) فكانت النتيجة أن حمّل المسؤولية جيلاً آخر وعذّب ذلك الجيل بالتيه في الأرض (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة:21-26].
ــــ في الثلاثين من مارس / آذار، ومنذ اثنين وأربعين سنة، يُحيي الفلسطينيون في كل سنة ما أطلقوا عليه عنوان (يوم الأرض).
ــــ الهدف من إحياء هذه الذكرى التأكيد المستمر على حقِّهم في أرضهم التي اغتصبها الصهاينة بمباركةٍ ومساندةٍ من القوى الاستكبارية.
ــــ وللتأكيد أيضاً على أنَّ تقادمَ الأيام لا يُسقِط هذا الحق، وإن رحَلت أجيال وجاءت أجيال أخرى من بعدها.. وإنْ راحَ جيلٌ عاصَر النكبة والنكسة، وجاء جيل آخر لم يعِشْ تلك الأيام العصيبة.
ـــ فالقضية الفلسطينية يجب أن تبقى حيّة فاعلة في الضمير، والعقل، والإعلام، والسياسة، والخطاب الديني، والحركة الدبلوماسية، وفي كل مجال يمكن أن يُسهِمَ ولو بشكل بسيط في إبقاء هذه القضية نابضة بالحياة.
ــــ وتزداد أهميةُ إحياءِ مثل هذه الذكرى، وذكرى يوم القدس العالمي في هذا العام، وغيرِهما من المناسبات الفسطينية لما نشهده من حركة قوية تسعى لتصفية هذه القضية، اتّضحَت ــــ بدءً ــــ مع إعلان الإدارة الأمريكية نقلِ سفارتها إلى القدس المحتلة باعتبارها عاصمة (إسرائيل)، وما استتبع ذلك من نشاط سياسي، ودبلوماسي، وأمني، وإعلامي يصبّ في هذا الاتجاه.
ــــ يأتي كل هذا على الرغم مِن أنّ هذه الخطوة ـــ التي لربما تتحقق بعد شهر مِن الآن ـــ تمثّل خَرقاً صريحاً للقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة بشأن مدينة القدس، باعتبارها أرضاً محتلة.
ــــ ومن هنا، كان إحياء الفلسطينيين لذكرى يوم الأرض في غزة وغيرها وبمسيرات ضخمة تحرُّكاً في الاتجاه الصحيح.
ــــ ولذا كانت ردّة الفعل الصهيونية عنيفة جداً، حين أطلقت العنان للقنّاصة باستهداف المحتجّين العُزّل فقتَلت منهم ثمانية عشر، وأصابت غيرَهم بالعشرات، سوى المئات الذين اختنقوا بالأدخنة والغازات التي نزلت على رؤوسهم بواسطة الطائرات المسيّرة عن بُعد.
ــــ المسيرة ـــ وبشهادة الجميع ـــ كانت سلمية، وفي داخل حدود غزة، والمحتجّون كانوا أناساً عُزَّل، ومع هذا ووجهوا بهذا الرد الوحشي من قبل الصهاينة، ولم يستثنِ قناصتُهم حتى المُدبِرين.
ـــ هذا الرد الوحشي جاء متماهياً مع مشروع التصفية الكاملة للقضية، بما في ذلك شطب الذاكرة من خلال إماتة المناسبات، عن طريق القمع والإرهاب، وإصابة الجماهير بالإحباط المجدد من خلال استخدام (الفيتو) في مجلس الأمن ضد إدانة الكيان الصهيوني بالمجزرة التي ارتكبتها في ذكرى يوم الأرض.
ـــ لقد أكّدت دولة الكويت ـــ في اجتماع الجامعة العربية ومن خلال دعوتها لعقد جلسة علنية طارئة لأعضاء مجلس الأمن الدولي لبحث التداعيات في قطاع غزة ـــ على ضرورة تحميل الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية القانونية والسياسية والأخلاقية عن مقتل وإصابة مئات الفلسطينيين العُزّلِ خلالَ مسيراتِ يومِ الأرضِ الفلسطيني، إلا أنه بالإضافة إلى استخدام الفيتو في وجه قرار الإدانة، طالعَنا القائم بأعمال مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية السيد (تاي بروك زرهون) خلال الجلسة بقولِه بأنّ على قوات الأمن الإسرائيلية الالتزام بأقصى درجات ضبط النفس وعدم استخدام القوّة الفتّاكة إلا كملجأٍ أخير! متحدّثاً عن وقوع بعض الإصابات خلال مسيرة قطاع غزّة! إنّ هذا الاستخفاف بالدم الفلسطيني وبالقضية الفلسطينية يأتي كنتيجة طبيعية لإهمال وتناسي العالم الإسلامي والعربي للقضية الفلسطينية، والاستسلام لسياسة الرضوخ للأمر الواقع والذي يدفع باتّجاه تصفية القضية في أسرع وقت ممكن، وبما يصبّ في نهاية المطاف في صالح الكيان الصهيوني. وعلينا أن نتحمّل مسؤوليتَنا في مواجهة هذا المشروع، كلٌّ بحسب إمكاناته، مستذكرين قولَه تعالى: (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).