خطبة الجمعة 12رجب 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الإمام علي (ع) وروحية التنمية


ـــ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: (فضيلة السلطان عمارة البلدان).
ـــ في الاصطلاح الإسلامي يُطلق على التنمية عنوان عمارة البلدان، لأن العمارة نقيض الخراب، وبالتالي فإنّ عمارة البلدان هي كل عمل يتم من خلاله تحقيق ما من شأنه تيسير حياة الناس وتحسين أحوالهم الاقتصادية، والصحية، والثقافية، والاجتماعية، وما إلى ذلك، وهذه هي التنمية.
ــــ والنص السابق يؤكد على أمرين:
ــــ الأول: أن الإسلام لا يعتني فقط بالتنمية الدينية والعبادية للفرد وللمجتمع، بل ويهتم بالتنمية المرتبطة بكافة مناحي الحياة.
ــــ الثاني: أن التنمية من المقاييس الرئيسة لتقييم أداء الحكومة إيجاباً وسلباً.. فكلما زادت التنمية كلما زاد نجاح الحكومة، والعكس صحيح.
ــــ ويروي لنا اليعقوبي في تاريخه أنّ علياً (ع) كتب رسالة إلى عامله على فارس الصحابي قُرَظة بن كعب الأنصاري [كان حامل راية الأنصار في صفّين. ومن المفارقات أنّ من بين أبنائه ولدين، أحدهما عمرو والآخر علي، فأما عمرو فاستشهد مع الحسين (ع)، وأما علي فكان مع عمر بن سعد في ذلك اليوم وهجم على الإمام يريد قتله فطعنه نافع بن هلال فأصابه.. فيا لمفارقات الحياة].
ـــ نعود إلى رسالة الإمام وفيها: (أما بعد، فإنّ رجالاً مِن أهل الذمّة مِن عَملِك) أي ممن يقعون تحت سلطتك (ذكروا نهراً في أرضهم قد عفا وادّفن، وفيه لهم عِمارةٌ على المسلمين) أي من حقّهم على المسلمين أن يعمّروا لهم ذلك النهر (فانظر أنت وهُم، ثم اعمُر وأصلِح النهر؛ فلَعمْري لأنْ يَعمُروا أحبّ إلينا مِن أن يَخرُجوا وأنْ يَعجَزوا أو يُقصِّروا في واجبٍ من صلاح البلاد. والسلام).
ـــ وهذا يعني أن الناس ـــ في المنظور الإسلامي ـــ سواسية في أمر التنمية، ومن مسؤوليات الدولة أن تحقّق ذلك للجميع بغض النظر عن أديانهم ومتبنّياتهم.
ــــ وفي حديث آخر يؤكّد الإمام (ع) أن التنمية ليست مسؤولية الدولة لوحدها، بل هي من المسؤوليات الفردية أيضاً، قال: (إنَّ معايش الخلق خمسة..... وأما وَجهُ العِمارة فقوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، فأعلمَنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة؛ ليكون ذلك سبباً لمعايشهم
بما يخرج من الأرض؛ من الحب، والثمرات، وما شاكل ذلك، مما جعله الله معايشَ للخلق).
ــــ أي أنّ على الإنسان استثمار الخيرات والطاقات التي أودعها الله عزوجل في هذا الوجود في مجال التنمية، وعليه فإن مقياس نجاح الفرد ــــ أيضاً ـــ في أدائه فيما له علاقة بالحياة الدنيا مرتبط بالتنمية التي يحققها هو لِذَاته، ولِمَا، ولمَن حوله كذلك.
ــــ وقد تُواجه الفرد بعض الصعوبات أو الظروف التي تحول دون تحقيق طموحاته، فهل يستسلم لها؟ أمير المؤمنين خيرُ مثال لذلك، فبعد وفاة النبي وما جرى من أحداث السقيفة وتوابعها، لم يُحبَط علي (ع) ليغدُوَ حبيس بيته، بل انطلق في مجال التنمية الزراعية وتوفير المياه لعامة الناس.
ـــ وواحدة من مشاريعه أرض تُعرف باسم (ينبع) والمعروفة اليوم باسم (ينبع النخل)، وهي على بعد 160 كم تقريباً من المدينة المنورة باتجاه البحر، وفيها اليوم عدة قرى باسم عين علي وعين حسن وعين حسين، وفيها قبر الحسن المثنى بن الإمام الحسن المجتبى (ع)، وقد وصفها ياقوت الحموي في (معجم البلدان) بأنها قرية غنّاء لبني حسن بن علي (ع).
ــــ عن أيّوب بن عطِيَّة الحَذَّاء، قال: (سمِعت أبا عَبد اللّه (ع) يقول: قَسَمَ نَبِيُّ اللّه (ص) الفَيْءَ فأصَاب عليّاً (ع) أرْضاً، فاحْتَفَر فيها عَيْناً، فخرَج مَاءٌ يَنْبُعُ في السَّماء كَهَيْئَة عُنُق البَعِير، فسَمَّاها يَنْبُع، فجَاء البَشِير يُبَشِّرُ، فَقَالَ (ع): بَشِّر الوَارِثَ، هِي صَدَقَةٌ بَتَّةً بَتْلاً في حَجِيجِ بَيْتِ اللّه، وعابِرِي سَبِيل اللّه، لا تُبَاعُ، ولا تُوهَبُ، ولا تُورَثُ).
ـــ وصار (ع) يعمل فيها بيده، يُصلح الأرض ويحفر الآبار ويزرع، حتى أن الصحابي أبا فضالة الأنصاري الذي استشهد لاحقاً في صفين: (خرج عائداً لعليّ بيَنْبُع، وكان مريضاً، فقال له: ما يُسكنك هذا المنزل؟ لو هلكتَ لم يَلِكَ إلاّ الأعرابُ، أعرابُ جُهينة، فاحتَمِل إلى المَدِينَةِ فإنْ أصابَكَ قَدَرٌ) توفيت (وَلَيكَ أصحابُكَ. فقال عليّ (ع): إنِّي لَستُ بِميّتٍ مِن وَجَعي هذا، إنَّ رسُولَ اللّه (ص) عَهدَ إليَّ ألاّ أموتَ حَتَّى أُضرَبَ، ثُمَّ تُخضَبُ هذه ـــ يعني لِحيَتَهُ ـــ مِن هذِه، يَعني هامَتُهُ).
ــــ هذه الحالة من الإصرار عند علي (ع) وعدم اليأس والإحباط هي من سماته المعهودة، ففي كتاب (حلية الأولياء) للأصفهاني عن مجاهد بن جبر: (خرج علينا علي بن أبي طالب يوماً معتجراً) طريقة في ارتداء العمامة (فقال: جعت مرّة بالمدينة جوعاً شديداً فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، إذا أنا بامرأة قد جمعت مدراً) طيناً جافاً (تريد بلّه، فأتيتها فقاطعتها) اتفقت معها في مقابل (كل ذَنوب) دلو (على تمرة. فمددتُ ستّة عشر ذَنوباً حتى مجُلت يداي) ظهرت الانتفاخات من خشونة الحبل (ثمّ أتيت الماء فأصبتُ منه، ثمّ أتيتُها فقلت) فعلت (بكفّي هكذا بين يديه... فعدّت لي ستّة عشر تمرة. فأتيت النبي فأخبرتُه، فأكل معي منها) وفي رواية أخرى: (ثم غسلتُ يدي فذهبت بالتمر إلى رسول الله (ص) فقال لي خيراً ودعا لي).
ــــ هذه هي روحية علي (ع) العالية وهمّته في مواجهة الظروف الصعبة، لا يستنكف من العمل، وهو هو... ولا يَسقط ولا يُحبَط أمام الظروف العصيبة، بل ينهض في كل مرة ليبحث عن طريق جديدة يستطيع من خلالها أن يغيّر الواقع من حوله إلى ما هو أحسن.. وهذه مِن أهم سمات مَن يريد تحقيق التنمية على المستوى الفردي والعام.
ـــ ولديّ هنا ملاحظة تخصّ الأعزّاء المتبرّعين لإقامة المشاريع الخيرية الدينية، وكذلك القائمين على تأسيسها في البدان الفقيرة والمنكوبة.
ـــ فلنجعل جزءً من إنجازاتنا الخيرية ذات الطابع الديني أن نلاحق النتائج على صعيد ما تحققه تلك المشاريع من تغيير إيجابي في واقع المستفيدين منها، لا على المستوى الديني فحسب، لاسيما بلحاظ أنّ من الأهداف الرئيسة للشعائر الدينية تحقيق التغيير في الإنسان إلى ما هو أفضل، لتجعل منه الإنسان الصالح المعطاء المساهم في تحقيق التنمية على الأقل في المحيط القريب منه.
ــــ ولعل أبسط مثال لذلك أن نتساءل: كم نكون قد نجحنا في العمل الخيري عندما نُقيم مشروعاً دينياً في بلدٍ ما، وتبقى مجاري الصرف الصحي والقمامة والقاذورات مكشوفة، وتنتقل عبرها الأوبئة، وروائحها تُزكم الأنوف، والبؤس يملأ المكان، دون أن تنجح تلك المشاريع في غرس روحيّة العمل لدى المستفيدين منها على تغيير واقعهم السلبي ثقافياً وصحياً وتربوياً واجتماعياً؟
ــــ التنمية على كافة الأصعدة من مسؤولية الأفراد كما هي من مسؤولية الحكومات، وإذا كانت بعض النصوص الشريفة تتحدث على المستوى الفردي أنّ (مَن تساوى يوماه فهو مغبون)، بمعنى أنّ على الإنسان أن يسعى دائماً إلى تطوير وتنمية واقعه وقدراته وإنجازاته تقوائياً وفكرياً وعبادياً وأخلاقياً وعلمياً وعملياً، فإنّ على الحكومات أيضاً أنْ تتذكّر دائماً أنّ نجاحَها الحقيقي مرهونٌ بمقدار التنمية الحقيقية التي تُنجزُها على الأصعدة الحياتية المختلفة التي يحتاج إليها المجتمع تماماً كما روي عن أمير المؤمنين علي(ع) أنه قال: (فضيلة السلطان عمارة البلدان).. وكلمة أخيرة: فلنُعِد التفكير بكل جدّية في نظرتنا وفهمنا وطريقة تعاملنا مع عباداتنا وشعائرنا ومساجدنا ومراكزنا الدينية إنْ لم تعمل على تغييرنا، وتغيير واقعنا إلى ما هو أحسن، لأنّ الله يريد لعباداتنا وشعائرنا الدينية أن تعيدنا إلى إنسانيّتنا التي تلوّثت وتناقصت وتحوّرت، وتخرجنا من أسفل سافلين إلى أحسن تقويمٍ الذي لا يصل إليه إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات.