خطبة الجمعة 5 رجب 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الإمام الباقر (ع) والغلاة


ـــــ ذكرت في الخطبة الأولى أن الإمام الباقر (ع) كان يشخّص خطرين مُحدِقَين بالتشيّع والولاء لمدرسة أهل البيت (ع)، الأوّل يتمثّل في عقيدة الإرجاء التي تغلغلت من المدرسة الأموية واقتحمت عالم التشيّع.. والثاني الغلو في أهل البيت (ع).
ــــ في كتاب اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي: (قال أبوعبد الله (ع): إنّا أهلُ بيتٍ صادِقون، لا نَخلُو من كذّابٍ يكذِبُ علينا) وكأنها سُنّة تاريخية (فيَسقُطُ صِدقُنا بكذِبِه علينا عند الناس) أي أنّ الجهود التي كان يبذلها أولئك الكذّابون بالوضع والتحريف كان مؤثّراً في الناس.. وللأسف فإن هذا التأثير مستمر إلى اليوم على الرغم مما بذله النبي وآله لبيان معايير تمييز الصدق من الكذب. ثم بدأ الإمام الصادق (ع) بتقديم أمثلة الكذابين من عهد رسول الله (ص) إلى أن وصل إلى أبيه الباقر، قال الراوي: (ثم ذَكرْنا المغيرةَ بن سعيد، وبَزيعاً، والسِّرّي، وأبا الخطاب، ومُعمَّراً، وبشاراً الأشعري) والصحيح الشُّعيري (وحمزةَ الزُّبيدي، وصائدَ النُّهَدي، فقال: لعنهم الله، إنّا لا نخلو مِن كذّاب يكذِبُ علينا أو عاجزِ الرأي) وكأنه يشير إلى مَن لا يملك حجة على كلامه فيختلق كلاماً ينسبه إلى الإمام (كفانا الله مُؤنَةَ كلِّ كذّاب، وأذاقهم اللهُ حَرّ الحديد).
ــــ الأسماء الماضية تمثّل قادة حركة الغلو على عهد الباقر ثم الصادق (ع)، وكانت حركتهم مؤثّرة وناجحة، واستطاعوا أن يَستقطبوا جمهوراً كبيراً في العراق، لاسيما بلحاظ البُعد المكاني بينهم وبين مستقرِّ الإمامين في المدينة المنورة، ومن خلال الاستعانةِ بالأساليب المختلفة التي كانوا يكذبون بها على الناس ويخدعونهم بها.. ولنلاحظ الرواية التالية الواردة في نفس المصدر السابق:
ـــ عن بُريد بن معاوية العِجْلي، قال: (كان حمزةُ بنُ عمارةَ الزُّبيدي لعنه الله) وهو أحد المذكورين في الخبر السابق (يقول لأصحابه: إنّ أبا جعفر (ع) يأتيني في كل ليلة) أي في عالم الحقيقة (ولا يزال إنسان يزعُم أنه قد أراه أياه.) أي وكان أصحاب الزبيدي يدّعون أنه أراهم الإمام عياناً، فهل كان يخدعهم أم كانوا متواطئين معه؟ (فقُدِّر لي أنّي لقيت أبا جعفر (ع) فحدَّثتُه بما يقول حمزة، فقال: كذَب عليه لعنةُ الله، ما يقدِرُ الشيطانُ أنْ يَمثُلَ في صورة نبي ولا وصي نبي).
ــــ ولاحظ الآن واحدة من حيل هؤلاء الكذّابين على الأئمة مما كانوا يخدعون به بسطاء الناس. ففي كتاب رجال الشيخ الكشي وهو يتحدث عن أحد الغلاة المعاصرين للكاظم والرضا (ع) وهو محمد بن بشير: (وكان يقول في موسى بالربوبيّة، ويدّعي لنفسه أنه نبي وكان عنده صورة قد عمِلَها وأقامَها شَخصاً) أي مجسمة (كأنه صورة أبي الحسن (ع) في ثياب حرير قد طلاها بالأدوية وعالجها بحيلٍ عمِلها فيها حتى صارت شبيهاً بصورة إنسان، وكان يطويها) وكأنها نوع من المجسمات البالونية (فإذا أراد الشعبذة نفخ فيها حتى صارت شبيهاً بصورة إنسان. وكان يطويها فإذا أراد الشعبذة نفخ فيها فأقامها، وكان يقول لأصحابه إنّ أبا الحسن عندي، فإنْ أحببتم أنْ تَروه وتعلَموا أنّي نبيّ فهلمّوا أعرِضُه عليكم) ولعل هذا كان بعد استشهاد الإمام. وقد تتساءل كيف يمكن للناس أن يصدّقوا مثل هذه السخافات؟ والجواب يكمن في الخلفية العقدية والثقافية لأهل المنطقة، فقد كانوا من النصارى، ومثل هذا المعتقد كان جارياً عندهم في السيد المسيح، ألوهيته، قتله، ثم عودته إلى الحياة (فكان يُدخلُهم البيت والصورةُ مطويّةٌ معه. فيقول لهم: هل ترون في البيت مُقيماً أوْ ترون فيه غيري وغيرَكم؟ فيقولون: لا، وليس في البيت أحد. فيقول: اخرجوا. فيخرجون من البيت فيصير هو وراء الستر بينه وبينهم، ثم يقدّم تلك الصورة ثم يرفع الستر بينه وبينهم. فينظرون إلى صورةٍ قائمةٍ وشخصٍ كأنّه شخصُ أبي الحسن، لا يُنكِرون منه شيئاً. ويقف هو منه بالقرب فيُريهم من طريق الشعبذة) أي الخداع البصري (أنه يكلمُه ويناجيه ويدنُو منه كأنه يسارّه، ثم يَغمزُهم أن يتنحّوا فيتنحّون، ويسبِلُ السترّ بينه وبينهم، فلا يرون شيئاً).
ــــ ونعود مجدداً إلى اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي، وفيه الخبر التالي الذي يبيّن لنا أسلوباً آخر مارسه الغلاة في الكذب والدس على الباقر (ع)، وبيان الطريق الذي من خلاله نُميّز بين هذه الأكاذيب وبين ما يمكن أن يكون صادراً عن الإمام، فقد سئل يونس بن عبدالرحمن وهو من أصحاب الرضا (ع): (يا أبا محمد، ما أشدَّك في الحديث وأكثرَ إنكارِك لما يرويه أصحابُنا، فما الذي يحمِلُك على ردّ الأحاديث؟ فقال: حدَّثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبدالله (ع) يقول: لا تَقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآنَ والسنّة) أي المؤكدة (أو تجدون معه شاهداً مِن أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدِّث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبَلوا علينا ما خالَف قولَ ربِّنا تعالى وسنّةَ نبيِّنا محمد (ص)، فإنّا إذا حدّثْنا قلنا: قال الله عز وجل، وقال رسول الله (ص). قال يونس: وافيتُ العراق فوجدتُ بها قِطعةً مِن أصحابِ أبي جعفر(ع)، ووجدتُ أصحابَ أبي عبدالله (ع) متوافرين، فسمِعتُ منهم وأخذتُ كتبَهم فعرضتُها مِن بعدُ على أبي الحسن الرضا (ع)، فأنكَر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبدالله (ع)، وقال لي: إنّ أبا الخطاب كذَب على أبي عبدالله (ع). لعن الله أبا الخطاب. وكذلك أصحابُ أبي الخطاب يدسُّون هذه الأحاديث إلى يومِنا هذا في كُتبِ أصحابِ أبي عبدالله (ع)، فلا تقبلوا علينا خلافَ القرآن، فإنّا إنْ تحدَّثْنا حدَّثْنا بموافقة القرآنِ وموافَقةِ السنّة).
ــــ بعد هذه الجولة السريعة في الأخبار التي بيّنت لنا جانباً من التحدّيات والأخطار المُحدقة، نتوقف للحظات مع وصيّتين للإمام الباقر (ع)، هما بمثابة رسائل تمسّ واقعّنا بشكل كامل. ففي أمالي الطوسي عن جابر قال: (دخلْنا على أبي جعفر محمد بن علي (ع) ونحن جماعة بعدما قضينا نُسُكَنا، فودّعناه وقلنا له: أوصِنا يا بن رسول الله. فقال: لِيُعِن قويُّكم ضعيفَكم، وليعطِف غنيُّكم على فقيرِكم، ولينصَحْ الرجلُ أخاه كنصيحته لنفسه. واكتُموا أسرارَنا، ولا تَحمِلوا الناسَ على أعناقِنا، وانظروا أمرَنا وما جاءكم عنّا، فإنْ وجدتموه للقرآنِ موافِقاً فخذوا به، وإنْ لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمرُ عليكم فيه فقِفُوا عنده ورُدّوه إلينا حتى نشرحَ لكم مِن ذلك ما شُرِح لنا).
ــــ الوصية الثانية في كتاب شرح الأخبار للقاضي النعمان عن أبي جعفر الباقر(ع)، أنه قال: (رَحِم الله عبداً مِن شيعتِنا حبَّبنا إلى الناس ولم يبغّضْنا إليهم. أما والله، لو يروُون ما نقول، ولا يحرّفونه، ولا يبدّلونه علينا برأيِهم، ما استطاع أن يُتعلَّق عليهم بشيء) لماذا؟ لأنّ كلامهم موافقٌ للقرآن، ولأنهم لا يقولون إلا زيناً، ولأنّهم منبعَ الحكمة (ولكنَّ أحدَهم يسمعُ منّا الكلمة، فيُنيطُ عشراً) أي يعلّق ويضيف إليها عشر كلمات (ويتناولُها برأيه) هذه الزيادات اللفظية التي يأتي بها الراوي والتفسيرات المغلوطة المتلائمة مع هوى النفس هي التي توقع الناس في الورطات (رحِمَ اللهُ مَن سمع ما يَسمع مِن مَكنون سرِّنا، فدفَنه في قلبه. ثم قال: والله، لا يَجعلُ اللهُ مَن عادانا ومَن تولاّنا في دارٍ واحدة) وكأنّ العبارة الأخيرة تحذيرٌ مِن وقوع مَن يخالف تلك التوصيات في مَهلكة العداء لهم.
ــــ إنّ التشيّعَ لأهل بيت النبوة وموالاتِهم لا يتمّ إلا بطاعة الله وولايته، وبالتقوى والعمل الصالح، وبالتمسّك بالقيم الفاضلة ومعالي الأخلاق، وبالتزام وصاياهم التي حذّروا فيها مِن الغلوّ بشأنهم، والافتراءِ عليهم، وتفسيرِ مقولاتِهم بما يُوافق أهواءَنا.. وأن نجعل من كتاب الله عزوجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حَكَماً فيما بَلغَنا عنهم، فما وافق كتابَ الله أخذْنا به، وما خالفَه رَدَدناه.