خطبة الجمعة 14 جمادى الآخرة 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: بين النموذجين السويدي واليوناني


ــــ في عهد أمير المؤمنين علي (ع) إلى مالك الأشتر قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (ص) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِن: لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ) ولن تصير مضرب المثل في الازدهار والتعايش وقوة الجبهة الداخلية (لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع).
ــــ وفي صحيح البخاري: (أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمْ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ (ص)؟ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ (ص)، فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ).
ـــ وفي وسائل الشيعة عن الإمام الصادق (ع) قال: (قال أمير المؤمنين (ع) لعمر بن الخطاب: ثلاثٌ إنْ حَفظتَهُن، وعملتَ بهنّ، كفَتك ما سواهن؛ وإنْ تركتَهُن لم ينفعْك شيءٌ سِواهن. قال: وما هنّ يا أبا الحسن؟ قال: إقامةُ الحدود على القريب والبعيد، والحكمُ بكتاب الله في الرضا والسُّخط، والقَسَمُ بالعَدل بين الأحمر والأسود. قال عمر: لَعَمري لقد أوجزتَ وأبلغت).
ــــ هذه هي خلاصة الموقف الإسلامي من فساد المسؤولين، ومن العدالة الاجتماعية، ومساواة الجميع أمام القانون.
ــــ ومن هنا نجد علياً (ع) يوجّه رسالة شديدة اللهجة إلى أحد المعيَّنين مِن قِبله في الولايات الخاضعة لحكمه، وهي الرسالة برقم 41 في نهج البلاغة، قال فيها: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفَسِي، لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الأمَانَةِ إِلَيَّ. ..... فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ، أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لأَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ) السريع الجري (دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ. فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ رَحيِبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ، غَيْرَ مُتَأَثِّم مِنْ أَخْذِهِ، كَأَنَّكَ ـــ لاَ أَبَا لِغَيْرِكَ ـــ حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ) إرثك (مِنْ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، فَسُبْحَانَ اللهِ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ؟ أَوَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ! أَيُّهَا الْمَعْدُودُ ـــ كَانَ ـــ عِنْدَنَا مِنْ ذَوِي الألْبَابَ، كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً، وَتَشْرَبُ حَرَاماً، وَتَبْتَاعُ الأِمَاءَ، وَتَنْكِحُ النِّسَاءَ، مِنْ مَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُجَاهِدِينَ، الَّذِينَ أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِمْ هذِهِ الأمْوَالَ، وَأَحْرَزَ بِهِمْ هذِهِ الْبِلاَدَ؟! فَاتَّقِ اللهَ، وَارْدُدْ إِلَى هؤُلاَءِ الْقَوْمِ أمَوَالَهُمْ، فإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللهُ مِنْكَ لأُعْذِرَنَّ إِلَى اللهِ فِيكَ، وَلأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً إِلاَّ دَخَلَ النَّارَ! وَوَاللهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فعَلاَ مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ، مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ، وَلاَ ظَفِرَا مِنِّي بَإِرَادَة، حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا، وَأُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا).
ــــ لو نُشِرت خريطة العالم، وطُلب منّا أن نؤشّر على الدول التي تلتزم بهذه المباديء التي يقرّها العقل قبل الدين، والضمير قبل القانون، فإلى أين ستتجه مؤشّراتنا؟ إلى الدول العربية والإسلامية؟
ــــ قبل ثلاثة أعوام تقريباً، قَدّمت وزيرة سويدية استقالتها من الحكومة بعد أن أُدينت بسبب ملء خزان سيارتها الخاصة بالبنزين بنحو 60 دولاراً من بطاقة مُنحت لها لإنجاز المهام الرسمية.
ــــ الوزيرة أكدت أنها نسيت بطاقتها الخاصة، واضطرت لاستعمال البطاقة الحكومية، وأثبتت بالوثائق أنها أعادت المبلغ في اليوم التالي دون أن يطلب منها أحد ذلك.. فهل شفع لها ذلك؟
ــــ القانون السويدي قرَّر أن تصرّفها بمثابة استغلال للمال العام، فاضطرت إلى تقديم استقالتها.
ــــ هذا مثال، والمثال الآخر ما جرى خلال هذا الأسبوع، حيث أُقيلت وزيرة الدولة لشؤون العمل في اليونان، وهي زوجة وزير الاقتصاد أيضاً.. ما السبب؟ اكتُشِف أن الوزيرة كانت تتلقّى بدل سكن بمبلغ وقدره (1000) يورو شهرياً ولمدة سنتين، من غير وجه حق، لأنها ميسورة الحال.
ـــ وعلى الرغم من إعلانها الاستعداد لردِّ كامل المبلغ وقدره 23 ألف يورو، إلا أن اعتذارها رُفض، كما أعلنت الحكومة اليونانية فوراً إلغاء كل بدلات السكن للوزراء غير النواب.
ــــ المثال الأول كان من دولة تحتل المرتبة 6 بحسب مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية، وهو دليل على ندرة حالات الفساد فيها.
ــــ والمثال الثاني لدولة تحتل المرتبة 59، وهي مرتبة متأخرة، والفساد فيها ليس بالقليل، ومع هذا، نجد أن الاستقالة واتخاذ الإجراء التصحيحي مِن قبل الحكومة جاء فورياً، ودون محسوبية لصاحب المنصب.
ــــ فما الذي دفعهما لحسم الأمور بهذه الصورة، وبهذه السرعة؟
ــــ السويد مملكة دستورية، وتُصنَّف بين البلدان الأولى في الرعاية الصحية، والمستوى التعليمي، وتوفير المياه النقية للشرب، والتقدم التكنولوجي والصناعي، ومضاعفة الناتج المحلي الإجمالي كل عام جديد، بما يعزّز التنمية المستدامة.
ــــ البرلمان المنتخب يشكِّل فيها سلطة تشريعية حقيقية، والقانون عندهم لا يتسامح نهائياً مع الذين يتجاوزونه، بغض النظر عن مناصبهم وسائر خصوصياتهم الشخصية، وهم يعتبرون أنّ مَجْدَ مملكتِهم لم يتحقق إلا باحترام القانون، وإقامة العدالة الاجتماعية، وهو ما يسعون للمحافظة عليه.
ــــ أما اليونان فتمرّ في أزمة اقتصادية خانقة، حيث تقف منذ سنوات على حافة الإفلاس، وهي مضطرة لاتخاذ مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والسياسية والقانونية التصحيحية لكي تنال مساعدة الدول الأوروبية وصندوق النقد الدولي، ومن بينها مكافحة الفساد المالي والإداري.
ــــ ولا أدري أيُّ النموذجين يمكنه أن يحرّك الحكومات العربية والإسلامية لاتخاذ خطوات حقيقية لمكافحة الفساد، على مستوى تغليظ القوانين، والتطبيق السليم، والإصلاح الفوري.
ـــ ولا أدري أيُّ النموذجين سيجعل من برلماناتنا ـــ بحق ـــ قوىً تشريعية ورقابية تعمل لمصلحة الأوطان، لا للمصالح الفردية، ولا الحزبية، ولا لأصحاب الرساميل، ولا لمراكز القوى المتصارعة فيها على نهب الثروات.
إنّ اقتصاديات الكثير من الدول العربية والإسلامية ليست جيدة، وهي ترزح تحت طائلة الديون الهائلة، والبطالة، وعجز الموازنة، وغير ذلك. كما أنّ مؤشّرات الفساد فيها تُزكم الأنوف، وهي مع هذا لا تتّخذ إجراءات حقيقية لمواجهة الفساد المستشري.. فماذا تنتظر؟ بالتأكيد لا أمل أن نرى هذه الدول ـــ في القريب العاجل ـــ وهي ترتقي لتكون كمملكة السويد من حيث الحزم في تطبيق القانون والإطاحة برؤوس الفساد، كما أننا لا نتمنّى لأوطاننا أن تعيش أزمة اقتصادية ضخمة كالتي تمرّ بها اليونان لتضطرّ إلى مكافحة الفساد، ومحاسبة الفاسدين بحزم، ولو شَغلوا أعلى المناصب. وأما في الكويت فإنّ الاعتراف الحكومي بعدم وجود استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد، كما ورد في خطة التنمية السنوية 2019/2018 والمرسَلة إلى مجلس الأمة قبيل احتفالاتنا بأعيادنا الوطنية، جاء بمثابة طعنة في قلب كل مواطن حريص على مستقبل هذا البلد. لو تساهل القانون السويدي مع الوزيرة التي استعارت 60 دولاراً من المال العام وفي وقتِ ضِيق، ثم أرجعتها بإرادتها، فإننا سنجد السويد التي تحتل المرتبة 6 في مؤشرات الفساد ـــ بعد سنين قلائل ـــ تُنافسُنا على مراتبنا المتأخرة... على أمل أن يأتي اليوم الذي نقيم فيه احتفالاتنا الوطنية مقرونة بالاحتفال بالقضاء على مكامن الفساد.