خطبة الجمعة 7 جمادى الآخرة 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لماذا تراجعنا؟


(يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّه أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [سورة البقرة:153-157].
ــــ تُمثّل سنة 1990 بالنسبة إلى الكويت علامة فارقة في مسيرتها.. ففي تلك السنة تعرّضت لغزوٍ واحتلال، وامتحانٍ عسير، وابتلاءٍ شديد، برزت خلاله كل العناوين التي جاءت في الآيات السابقة:
1ـ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ: فقد اقترن اسم النظام البعثي في العراق بارتكاب الجرائم الوحشية، وابتكار صنوف التعذيب، والإبادات الجماعية، والأخذ بالظِّنّة، وغير ذلك مما هو غير خافٍ على أحد.
ــــ وقد ارتكب هذا النظام في الكويت خلال أشهُر الاحتلال من جرائم القتل والتعذيب والاغتصاب والسرقة والتدمير ما يمثّل خلاصة جرائمه في العراق، ومن الطبيعي أن يكون الخوف أحد عناوين هذه المرحلة العصيبة.
2ـ وَالْجُوعِ: وهو نتيجة طبيعية لتوقّف حركة الاستيراد، وسلب الكثير من مخازن المواد الغذائية، والشلل الذي أصاب السوق المحلية، وإغلاق المحال، مما أدى إلى شح المواد الغذائية.
3ـ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ: وقد اضطر الكثيرون لبيع ممتلكاتهم وفقدوا مواردهم المالية.
4ـ وَالأنفُسِ: بين شهداء المقاومة، والمغدور بهم، وضحايا التعذيب، والمفقودين والأسرى.
5ـ وَالثَّمَرَاتِ: حيث توقف تصدير النفط الذي يمثّل عصب الاقتصاد الكويتي.
ـــ فهل انهار الشعب الكويتي الذي كان يعيش الرفاهية من قبل؟ وهل استسلم للطاغوت الغازي؟
ـــ أبداً، بل إنه واجه هذا الابتلاء الشديد بصورة أبهرت العالم.. صمود ومقاومة، سواء أكانت مقاومة عسكرية أو مدنية في الداخل، أم سياسية وإعلامية في الخارج.. هذا الصمود الذي أعجز الاحتلال من تشكيل حكومة موالية له، وتكون ذات مصداقية وقبول في الداخل والخارج.
ــــ فما الذي حفظ هذا الشعب من الانهيار؟ ما القوة التي أبقته صامداً ومقاوماً لكل صور الترغيب والترهيب التي مارسها النظام الصدامي؟
ــــ الاستعانة بالصبر والصلاة واللجوء إلى الله في هذه المحنة.. فالمعادلة واضحة: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللّه مَعَ الصَّابِرِينَ) وكيف يكون الله مع الصابرين؟ (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
ـــ إن الله تعالى يُنزل صلواتِه ورحماتِه وتسديداتِه وبركاتِه وتوفيقاتَه على هذا المجتمع.
ــــ ومن أوضح مظاهر ذلك، تماسك الشعب ووحدته: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال:62-63].
ـــــ لو نقرأ المشهد الداخلي قبيل الغزو لاتّضحت لنا مديات التفكك والتناحر والانقسام على أسس حزبية وطائفية ومصلحية.. بين الشعب والحكومة من جهة، وبين المكوّنات الشعبية من جهة أخرى. ولو فكّر أحدنا في الكيفية التي يمكن من خلالها إعادة اللحمة الداخلية لعجز عن الوصول إلى حل.
ــــ فما الذي أعاد اللحمة، وحقّق التماسك بعد كل ذلك النفور والتخاصم والتفكك؟ إنها يد الغيب التي امتدّت فألّفت بين القلوب، ولو كنا قد أنفقنا مال الدنيا لتحقيق تلك الألفة لما أمكننا ذلك.
ــــ ويجب أن ندرك أن هذا التلاحم والتماسك الوطني، والتفاف الشعب حول حكومته شجّع المجتمع الدولي على اتخاذ القرار لتحرير الكويت.. فكيف تعاملنا لاحقاً مع هذه النعمة الكبيرة؟
ـــ من المؤسف فعلاً أن نقول أن حالنا تجاه هذه النعمة جاء كالوصف القائم في قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت:65].
ـــ هذا خنجر في الخاصرة، والخنجر الآخر تنامي الفساد.. حيث جاء في تقرير منظمة الشفافية الدولية بالأمس أن الكويت تراجعت 10 درجات في مؤشرها! ولم تكن في الأساس بمرتبة محمودة من قبل، ولكن الأمر ازداد سوءً.
ـــ لقد كان من المفترض بالحكومة والقوى السياسية والحركات الدينية ومؤسسات المجتمع المدني بعد تحرير الكويت من براثن الغزو والاحتلال الصدّامي البعثي أن تعمل على الاستفادة من التجربة الرائعة التي عاشها أبناء هذا البلد في تلاحمهم وتكاتفهم وتعاونهم الفطري وائتلافهم المسدَّد من قبل الله تعالى، وأن تُنمّيها وتعمّقها وترسّخها على المستوى التعليمي والتربوي والإعلامي والتنفيذي، وتحصّنها من التأثير السلبي للأزمات الطائفية التي عصفت بالمنطقة.. إلا أن مجريات الأمور جاءت على خلاف ذلك، وإذا بنا بعد أكثر من ربع قرن من التحرير نرزح تحت وطأة الطائفية والعنصرية والروحية الحزبية المنغلقة على مصالحها، حتى بتنا نشهد بعضَ مَن ينادي بالمصالحة الوطنية يفصّل الحلول التي يقدّمها ورؤاه ومقترحاته بما يخدم جماعتَه فقط! إنّ الزجّ بالمغرّدين في السجون، وابتداع قوانين تجريم المشكّكين بالقضية الفلانية، والمعارضين للقانون العلّاني، وإغلاق قناة هنا، وتسفير خطيب هناك، وسحب كتاب هنا، وإزالة لوحة هناك، ليس هو الحل، ولن يحقق الأُلفة، ولا المصالحة الوطنية، ولن يقرّب الشيعي من السني، ولا الإسلامي من العَلماني.. لأن المسألة أعمق من ذلك، فهي تمس العقل في قناعات الناس، وهي تمس الروح في عواطف الأفراد، وهي تمسّ الواقع في قضاياهم اليومية التي يعايشونها ويتأثّرون بها، ولذا فإنّ مَن يريد أن يعيد الأمور إلى نصابِها عليه أن يضع برنامجاً متكاملاً يرسم معالمَه أصحابُ الاختصاص، منطلقين من روح وطنية مخلِصة، لا يلغون ولا يهمّشون منها أحد، ليتم تنفيذها من قبل الجهات الحكومية والأهلية بعيداً عن الحالة الشعارية التي لا تحقق على أرض الواقع نتائج حقيقية، بل تبقى مجرد إثارات عاطفية سرعان ما تختفي وتزول، لاسيما وأنّ تراجع الكويت في مؤشّر مدركات الفساد مرتبط ارتباطاً وثيقاً ـــــ بحسب منظمة الشفافية الدولية ــــ بتقلص مساحة الحريات.