خطبة الجمعة 30 جمادى الأولى 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: آكلو لحوم البشر


ــــ برَعت هوليوود في صناعة أفلام الرعب والمغامرات التي تُظهر أنواعاً من آكلي لحوم البشر، سواء بصورة قبائل بدائية، أو (زامبيز)، أو مجرمين مهووسين، أو من شدة الجوع في الأزمات.. إلخ.
ــــ وترسّخت هذه الصورة البشعة والمقززة في أذهان المشاهدين، ولكنها في نهاية المطاف تصبّ في اتجاه معين... بينما هناك اتجاه آخر لأكل لحم الإنسان ويرتبط بعناوين أخلاقية معيّنة نجدها في القرآن والأحاديث، وينبغي أن يترك تأثيره البشع في أذهان الناس، لأنه يرتبط بحياتهم اليومية.
ــــ لا يخفى علينا أن القرآن صوّر الغيبة بصورة أكل لحم الميت حيث قال تعالى: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات:12].
ــــ لاحظ أن القرآن لم يكتف بتحريم الغيبة، بل قدّمها على شكل مشهد وصورة حسية تعبيرية، لأنّ تأثير هذا النوع من التعبير أقوى بكثير من التعبير المعتاد من قبيل (الغيبة حرام).
ـــــ إلا أن هذه الصورة البشعة والمقززة اليوم ـــ لسبب أو لآخر ــــ غير حاضرة في الأذهان عندما يمارس الإنسان الغيبة أو يستمع إليها دون اعتراض.
ــــ لربما نحن بحاجة إلى جهود بعض شبابنا المبدعين في تقديم مشاهد تصويرية تُرسّخ هذه الصورة البشعة والمنفّرة للغِيبة، كي تتداعى هذه الصورة كلما نوى الإنسان أن يغتاب، أو استمع إلى غيبة.
ــــ وهناك نوع آخر وغريب من أكل لحم البشر، وقلّما نلتفت إلى كونه كذلك، وهو أن يأكل الإنسان نفسه.. عن طريق الحسد... قال أرسطو: (الحسود يأكل نفسه كما يأكل الصدأ الحديد).
ــــ أنا لا أتحدّث هنا عمّا يُعرف بتأثير العين، فذاك أمر آخر، قد يكون حقيقة وقد يكون وهماً.
ــــ بل أتحدث عن الحسد بمعنى أن يتمنّى الإنسان ـــ عن قصد ـــ زوال النعمة من الآخرين، ويسعى في هذا الاتجاه، إما على مستوى الكلام، بالغيبة أو النميمة أو البهتان مثلاً، أو على مستوى الفعل، بالعدوان على الممتلكات أو الاعتداء الجسدي الذي قد يصل إلى حد القتل.
ـــ لابد أن نلاحظ أن هناك ارتباطاً وثيقاً ما بين بلوغ الأنا مستويات عالية جداً بحيث تتحوّل إلى عُجُب، وإحساس بالرفعة على الآخرين، ثم التكبّر عليهم.. وما بين الحسد.
ـــ إبليس كان يعاني من الكِبر والعُجب بنفسه.. هل كان يُدرك ذلك من نفسه؟ لا أدري.. ولكن في لحظة الاختبار التي تكشف العيوب اتّضحت الصورة، أمرَه ربُّه المعبود بالسجود فأبى.. وتحوّل كِبرُه وعجبُه بنفسه إلى حسد.. وتحوّل الحسد إلى رغبة عنيفة ومجنونة بالانتقام.
ــــ (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) إبليس في هذه اللحظة كان يعلم أن الأمر ليس مزحة، ومع هذا لم يطلب العفو والتوبة، بل اتّقدت نار الحسد في قلبه والرغبة في الانتقام.. كيف لهذا المخلوق الطيني أن ينال رضا الله وينعم بعطاياه في الحياة وقد يحصل على الجنة، في الوقت الذي كان فيه سبباً لطردي منها (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) طلب المهلة، لا ليفكّر ويعيد حساباته، ولا لكي يتوب ويكفّر عن ذنبه، بل فضّل أن يستجيب لمتطلّبات الحسد على أن ينال التوبة والجنة: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص:75-83].
ــــ الحسد شيء غريب، يجرّيء الأخ على أخيه إلى مستوى القتل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) وهل طاوعته نفسُه ونفّذ وعده بأخيه الطيب البريء المتّقي وبلا ذنب؟ (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة:27-30].
ـــ لاحظ هنا كيف ربط أمير المؤمنين (ع) في الخطبة القاصعة في قصة قابيل وهابيل بين الكِبر والحسد: (وَلَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ، سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ، وَقَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ، وَنَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ، الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ، وَأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
ـــ وما قصة يوسف مع إخوانه ببعيدة عن الأذهان.. لا الدم، ولا اللقمة المشتركة، ولا الفطرة، منعت الإخوة من قتل أخيهم! ولكن يمكر الحاسدون، ويمكر الله، والله خير الماكرين.
ـــ أُسأل أحياناً لماذا يهاجم العالم الفلاني عالماً آخر؟
ـــــ القرآن يجيب على هذا السؤال بوضوح من خلال المثال التالي: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ) كبعض اليهود (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) بالأصنام (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً) [النساء:51]، عابدو الأصنام أهدى من المؤمنين برسالة محمد (ص)!
ـــــ ما الذي دفعهم إلى هذا الكذب والتناقض مع أنفسهم مع أنهم حملة علم؟ (.... أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) [النساء:54].. إنه الحسد! وما أكثر الحسد بين العلماء.
ــــ العِلم وحدَه لا يُطهِّر الإنسان وسلوكه إذا لم تقترن به تربية أخلاقيَّة.. العلم هنا يكون كمية من المعلومات لا أكثر.. حتى على المستوى الإيماني قد لا يتأثّر إيجابياً بعلمه.. فالحاسد عنده مشكلة إيمانية.. عنده خلاف مع الله الرازق الحكيم. لا توجد عنده ثقة بعدل الله. فهل أفاده علمه؟ ومشكلة مثل هذه الحالات أن تأثيرها ليس محدوداً، لأنّ الناس يتّبعون العلماء ويأخذون عنهم.
ـــ والرؤساء كالعلماء.. تأثيرهم واسع المدى. صدام عاش هذا الداء الوبيل.. كِبر وعُجُب تحوّل إلى حسد.. حسَد الكويت على ما بها من نِعَم.. وملأ رؤوس شعبه بالأباطيل حول الأصل والفرع، وشحن صدورهم بالأحقاد، ثم غزا الكويت بكل وحشية.. صحيح أن بعض العوامل السياسية كان لها دور في ارتكاب جريمته، ولكن العامل النفسي كان حاضراً بقوة.. وعلى رأسه الحسد.. فكيف غدا مصيرُه؟ وُجِد مختبئاً في حفرة كالجرذان، فأُخرِج منها، وسيق إلى مصيره ذليلاً.
ـــ وتدور الأيام لتحتضن الكويت مؤتمر إعادة إعمار العراق، وكأنها تنطلق في هذا الموقف تناغماً مع قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34]. وفي هذا درس بليغ.
ــــ إنّ للحسد من التأثير أنْ جعل نهايةَ هابيل المحسود قتلاً على يد أخيه الحاسد، في واحدة من أبشع جرائم الإنسانية، ولكننا إذ نؤمن بأن الموت في هذه الحياة ليس نهاية المطاف، بل مجاز إلى دار الخلود.. لذا فإنَّ هابيل لم يخسر شيئاً، بل ربح جنة الخُلد بتقواه: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [المائدة:28]، بينما خسر قابيل كل شيء.. دنياه، لأن الحاسد يُدمّر عافيَته ويُحرق نفسه ألماً وكمداً، وكما قال أمير المؤمنين(ع): (وَيْحَ الحَسَدِ ما أعْدَلَهُ! بَدَأ بِصاحِبِهِ فَقَتَلَهُ).. وخسر آخرتَه لأن الله يقول: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93]. وهكذا هو مصير كل حاسد.. الخسران والندم.. رسالة أخيرة إلى كل مَن تحدّثه نفسه لعقد المقارنات مع الآخرين مما قد يجرّه إلى الحسد.. ثق بعدل الله وحكمته، ولا تمدّنّ عينيك إلى ما عند الآخرين.. ابذل جهدك لتحقيق طموحاتِك المباحة في الدنيا.. وأعدّ العُدّة لآخرتِك.. تشاغل بتنمية نفسك عن حسد الآخرين، وحدِّق في ما وهبك الله من نِعمٍ تتفوّق بها على مَن سواك، وكن من الشاكرين، لتعيش راحة البال، وطمأنينة الإيمان، ورضا النفس.