خطبة الجمعة 23 جمادى الأولى 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: قصة القِبلة في الإسلام


ــــ بُعث النبي الأكرم (ص) في مكة المكرمة وكثير من العرب الجاهليين يقدّسون المسجد الحرام والكعبة المشرفة ويحجّون إليها، وذلك مِن خلال ما ورثوه من الشريعة الإبراهيمية التوحيدية.
ــــ وأراد الله سبحانه أن يختبر مدى صبر وطاعة المؤمنين برسالة النبي(ص)، فأمرهم في العهد المكي أن يتوجّهوا في صلاتهم إلى المسجد الأقصى حيث قبلة أهل الكتاب. قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [البقرة:143].
ــــ فالمسألة من الناحية النفسية لم تكن سهلة، بل كانت كبيرة بحسب تعبير الآية وصعبة، فالنبي (ص) من جهة مكي، وهو يقول، والقرآن يشهد، بأنّ رسالته امتداد للرسالة الإبراهيمية.. فلماذا تكون القبلة (مستوردة) أو (أجنبية)؟ لماذا لا تكون هي ذاتها البيت الذي بناه إبراهيم جد النبي؟
ــــ ولربما هنا حكمة أخرى، وهي محاولة جذب أهل الكتاب إلى الإسلام، فهم أقرب لهذه الرسالة من المشركين.. كما أنها محاولة للتأكيد على أن هذه الرسالة امتداد لرسالتي موسى وعيسى(ع).
ـــــ وعلى كل حال، استمر الأمر كذلك إلى أن هاجر المسلمون إلى المدينة، وبدأت إشكالات اليهود تتوالى عليهم حول مجموعة من القضايا. تشكيكات، وإثارات فكرية، وأسئلة، وسخرية. إلخ.
ــــ وكانت مسألة القِبلة واحدة من هذه العناوين المُثارة.. فبدلاً من أن يفهمها اليهود على أنها رسالة إيجابية من الإسلام للدلالة على وحدة خط الرسالات، اعتبروا القضية (سرقة تشريعية) ناتجة عن (فراغ تشريعي) في دين محمد (ص)!
ــــ ولذا بدأ القرآن يُجلّي الموقف، ويضع النقاط على الحروف، ويكشف حقيقة اليهود في تاريخهم، وسلوكياتهم، وانحرافاتهم، وطريقة تفكيرهم، وطريقة تفاعلهم مع الرسالة الجديدة، ويخاطبهم ما بين أسلوب الترغيب والترهيب، وذلك ابتداءً من الآية 40 من سورة البقرة حيث يقول سبحانه: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
ـــــ وتتوالى الآيات الناصحة والمحذّرة، ثم تتبعها آيات تتحدث عن تاريخ اليهود، في قصتهم مع فرعون، وكيف تمرّدوا على موسى (ع) بعد كل المعاجز التي عايشوها، بما في ذلك قصة البقرة.
ــــ ثم يتوجّه الخطاب إلى المسلمين في الآية 75: (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
ــــ أتريدون أن تعرفوا حقيقة هؤلاء القوم؟ إنهم:
1ـ المفترون على الله: (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً) [80]،.
2ـ المتمرّدون عليه: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ... ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) [84-85].
3ـ المناقضون لأنفسهم: (وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ) [89].
ــــ هل هذا الأمر جديد عليهم؟ أبداً: (وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) [92].
ـــ وتتوالى الآيات في كشف الحقائق: أيها المؤمنون برسالة محمد (ص)، لا تنخدعوا بأساليب اليهود الماكرة، وبكلماتهم المعسولة، وبظاهر انتمائهم لموسى والأنبياء من بني إسرائيل، وحملهم التوراة، لأنهم لا يريدون لكم الخير: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [109].
ــــ إنهم يسعون لهدم مساجدكم، ومنع ارتباطكم بالله، كما سعوا في ذلك من قبل مع النصارى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ... وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) [113 - 114].
ــــ أيها المؤمنون برسالة محمد (ص)، إنّ امتدادكم التشريعي يعود إلى إبراهيم(ع).. إنكم لستم حالة طارئة، بل إنّ جذور رسالتكم وشريعتكم تضرب في عمق التأريخ إلى ما قبل شريعة موسى.
ــــ ولذا تبدأ الآية 124 بسرد قصته (ع): (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
ــــ ثم كيف بنى الكعبة بمعية ابنه إسماعيل (ع): (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً) [125].
ـــ وكيف أنّ ظهور مكة كبلد كان ببركة دعاء هذا النبي العظيم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [126].
ــــ وأنّ ولادةَ النبي الأكرم (ص) ورسالتَه كانت أيضاً ببركة دعائه: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [129].
ــــ ولذا فإنّ هذه الرسالة والشريعة هي الامتداد الحقيقي لرسالة وشريعة إبراهيم ولسائر الأنبياء (ع): (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [135- 136].
ــــ ثم تأتي الآيات لتعالج مسألة القِبلة: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء) [144].. ضغط هائل واجهه النبي من اليهود من جهة، ومن المسلمين من جهة أخرى بادّعاء أنّ التوجّه إلى قبلة اليهود
دليلٌ على الإفلاس التشريعي.. هكذا قال اليهود، وهكذا اهتزّت قناعات المسلمين.. فما هو الحل؟
ـــ يا رسول الله، سننسخ لك التشريع السابق، ونُنزل عليك تشريعاً جديداً، فالأمر بيد الله: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [106].
ــــ ونزَل التشريع الجديد للقبلة: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) فهي محبّبة إلى قلبك، وترفع عنك ضغط الإثارات التي بدأت في مكة واستمرت في المدينة، فما هي هذه القبلة الجديدة والأبدية؟
ــــ (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ)[144].
ــــ إنهم يتلون في مزامير داود (ع) اشتياقه إلى بيت الله: (تشتاق، بل تتوق نفسي إلى ديار الرب.... طوبى للساكنين في بيتك). وأين هذا البيت؟ إنه البيت الواقع: (في وادي بكة).
ــــ وهكذا تخاطبنا الآية 143 من سورة البقرة بهذا النداء: أيها المؤمنون برسالة محمد (ص)، لقد اختار الله لكم أن تكونوا القطب الذي تتطلّع إليه الأمم.. لتكونوا أنتم المرجعية لهم في الفكر، وفي التشريع، وفي الأخلاق، وفي القيم.. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) لا العكس.. هكذا تحدثت الآية في أجواء تشريع القبلة، والردّ على الإشكالات المثارة حولَها... ولذا، فلتمْلِكوا الثقة برسالتكم، وبإيمانكم، وبشريعتكم، وبنبيّكم، وبقرآنِكم، وبالقيم والتشريعات التي تحملونها، واشعروا بعزذة الانتماء إلى الإسلام، لتنطلقوا في الحياة ـــ وبقوة ـــ مبشّرين ومنذرين.. لا تهتزّوا أمام تشكيكات المشكّكين، ولا تخضعوا لإثارات الحاقدين، فإنّ ادّعاءاتِهم لا تعدو أن تكون سفاهاتٍ لا قيمة لها، وإشكالاتٍ لا تحمل قوّة الحجّةِ في مضامينِها: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [142].