خطبة الجمعة 16 جمادى الأولى 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: خرافات دان جيبسون

ــــ تحدثت في الأسبوع الماضي عن جانب مما طرحه الكاتب الكندي (دان جيبسون) حول قِبلة المسلمين وتاريخ مكة المكرمة.. وعرضتُ ردّاً جزئياً حول الامتداد التاريخي لمكة، وطلب مني بعض الإخوة والأخوات عرض المزيد من أوجه الرد على ما جاء في كلامه.
ــــ هناك مجموعة من الأمور المبنائية التي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار لنُدرِك بعض مكامن الخلل في كلام جيبسون، ومَن طبّل لكلامه.
1ـ النص القرآني الكامل محفوظ ومقروء عبر القرون من خلال تسلسل مستمر، يأخذه التلميذ عن أستاذه، والأستاذ عن أستاذه، وهكذا... إلى أن يصل السند إلى رسول الله (ص).
ــــ ولمزيد من الإمعان في الحفاظ على هذا التسلسل وبدقّة شديدة، فقد استحدث المسلمون نظاماً يُعرَف باسم (إجازات القرآن)، وهي عبارة عن شهادة يُقدّمها الأستاذ للطالب بَعد أن يقرأ عليه القرآن كاملاً مع التجويد والإتقان ودون أخطاء، وقد تكون عن ظهر غيب، أو مِن خلال المصحف.
ـــ كما يُشترَط فيها دراسة وحفظ بعض الكتب الخاصة بالقراءات، وغير ذلك.
ــــ هذا يعني أن هناك سلاسل سند لقراءة القرآن الكريم متصلة من القرّاء إلى رسول الله (ص)، وأنّ كل الكلام الذي يُقال عن تطوّر النص القرآني بالزيادة فيه والتغيير كلامٌ لا يَعتمد على أساس علمي، بل هو ناشيء عن جهل بالطريقة التي من خلالها حفظ المسلمون القرآن من التغيير.
ـــ هذا المنهج في التعليم وحِفظِ القرآن وفهمِه ابتدأ من عهد النبي الأكرم (ص) واستمرَّ مِن بعده.
ـــ عن عبدالرحمن السُّلَمي: (حدَّثنا مَن كان يُقرئنا من أصحاب النبي (ص) أنهم كانوا يقترئون من رسول الله (ص) عشرَ آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلَموا ما في هذه مِن العلم والعمل). وعن أنس بن مالك: (إنَّمَا كَانُوا إِذَا صَلُّوا الغَدَاةَ قَعَدُوا حَلقاً حَلقاً، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ، وَيَتَعَلَّمُونَ الفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ).
ــــــ وتطوّر هذا الأسلوب بسرعة وتحوّلت الحلقات في غضون 10 سنوات تقريباً إلى مدارس لتحفيظ القرآن وتلاوته، حتى أننا نجد نموذجاً منها يُنقل عن مدرسة الكوفة للقرآن في عهد الخليفة عمر، حيث يقف كبير المعلمين وأمامه مجاميع مقسّمة من الطلاب، ويقف أمام كل مجموعة
معلمهم، وتبدأ عملية التمسيع والمراجعة والتدقيق والتصحيح لكل طالب.
ـــ ويضاف إلى ذلك أنه لا توجد ولا نسخة واحدة من مخطوطات المصحف الشريف تختلف في مضمونها عن المصاحف المطبوعة اليوم.
ـــ المشكلة عند أمثال جيبسون أنّهم يتصوّرون أن حال القرآن كحال كُتب العهد القديم والجديد،
حيث فُقدَت لمدد زمنية طويلة، ثم أعيدت كتابتها بصورة أو بأخرى.
ـــ فالتوراة فُقدت بعد الغزو البابلي في القرن السادس قبل الميلاد، وكُتبت من جديد على يد عزرا الكاتب بعد أكثر من خمسين سنة... ولا نعرف مصير الإنجيل، ويكفي أنك تجد اليوم أربعة أناجيل، وكلٌّ منها نسخة مختلفة عن الأخرى.. وكانت هناك العشرات من نسخ الإنجيل ألغيت.
ــــ هذه الصورة أُسقطت على القرآن، والحال أن شأن النص القرآني ليس هكذا، ومن يقول ذلك إما جاهل أو مغرض.
2ـ ابتكر المسلمون أيضاً نظاماً دقيقاً لحفظ الأحاديث والروايات والكتب، فأوّلاً، لكل رواية سند واحد على الأقل متصل إلى مصدرها.. مثلاً، الكليني يروي عن علي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن الإمام جعفر الصادق. وثانياً، اهتمّوا بأسانيد الكتب أيضاً واتصالها بمؤلّفيها.
ــــ في هذا العصر مع وجود المطابع الحديثة وسهولة التواصل مع بعضنا البعض يصعب صدور كتاب لمؤلف معاصر وهو ليس له.. أما في الأزمنة الغابرة فقد كان الأمر مختلفاً، حيث كان بالإمكان إصدار كتاب ونسبته إلى غير مؤلفه، كما كان بالإمكان التلاعب في الكتاب وتغييره.
ـــ ولذا ابتكر المسلمون أسلوباً يحفظون من خلاله كتبهم المهمة. يجلس العالم مع طلبته، ويبدأ كل طالب بقراءة نسخته الخاصة من كتاب الأستاذ، فإذا أتمّ كل الكتاب أجازه المعلم. ثم يقوم آخرون لاحقاً بالنَّسخ على هذه النسخة، ويقرؤونها على هذا الطالب الذي أصبح أستاذاً... وهكذا.
ــــ فأصبحت لدينا سلاسل سندية لكل كتاب مهم، بالإضافة إلى الأسانيد الخاصة بالروايات نفسها.
ـــــ ثم إنّ أسانيد الكتب تُدرس مِن قِبَل أهل الاختصاص لمعرفة مدى صحتها ودقّتها وتقييم رواتها من حيث وثاقتهم بالإضافة إلى عقد المقارنات بين مضامين النسخ المتعددة.
ــــ ومن هنا، فلدينا اليوم علماء يتصل إسنادُهم لكتاب الكافي إلى العلامة الكليني، كما لدينا من يَتّصل إسنادُهم للبخاري صاحب الصحيح مثلاً، وكلاهما من أعلام القرن الهجري الثالث.
ــــ ومضمون ما في الكافي والبخاري مروي بالأسانيد أيضاً، إما عن كتب مسندة بالرواة أو عن الرواة أنفسهم.. كل هذا يَدرسه العلماء ويدقّقون فيه، وألّفوا فيه مئات الكتب الاختصاصية.
ـــ وأنا على ثقة تامة أن جيبسون والملاحدَة وأمثالَهم لا يفقهون من هذا شيء.
3ـ حفظ العرب الأنساب واهتموا بذلك أيَّما اهتمام، ولا يُنكِر ذلك إلا جاهل. وقد تخصّص بعضُهم بعلم الإنساب بصورة مذهلة، وألّفوا عشرات الكتب في ذلك، مضافاً إلى احتفاظ الكثير من القبائل والأسر بمشجّرات النسب، بمن فيهم الأسرة الهاشمية التي ينتسب إليها رسول الله (ص).
ـــ زياد بن سميّة إلى اليوم يُطلَق عليه زياد بن أبيه، وقامت الدنيا على معاوية ولم تَقعد حين نسبه إلى أبي سفيان.. لماذا؟ لأنَّ مسألة النسب ليست مسألة هامشية في حياتهم.
ـــ مرَّة أخرى، هناك عملية إسقاط ناشئة عن جهل أو لغرض في نفس جيبسون وقرنائه.. حال المجتمعات الغربية اليوم في كثير من الحالات معلوم.. يُسأل الولد: مَن أبوك؟ يقول: اسألوا أمي.
ـــ اختلاط الأنساب، والعلاقات غير الشرعية، وعدم وجود عدّة للمرأة، وغير ذلك جعل صورة النسب عندهم مشوّشة.
ـــــ وهذه الصورة يتم إسقاطها على المجتمع العربي، فيقول جيبسون أن النبي ولد من أبوين نبطيين، وأنه لم يولد في مكة!
ـــ ختاماً أقول: إنّ السخافات التي أطلقها جيبسون في كتابه، وفي الفيلم الذي أعدّه، يمثّل حلقةً في سلسلةٍ طويلةٍ من الافتراءات التي أطلقها المستشرقون والملاحدةُ وأعداءُ الإسلام لا بغرض البحث العلمي، بل انطلاقاً من الحربين المعلَنة والخفيّة التي يشنّونها، وشعارُهم في ذلك أنّ الرصاصة التي لا تُصيب تُدوِش! وأدعوا أحبابي من الشباب إلى المطالعة والسؤال وإطلاق الحوارات المفيدة التي ينمّون من خلالها حصيلتهم من الثقافة الدينية بما يجعلهم صِلاباً في مواجهة الحملات المسعورة التي تستهدف دينَهم وقرآنَهم ونبيَّهم.