خطبة الجمعة 9 جمادى الأولى 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: أين يقع المسجد الحرام ؟!

ــــ أين يقع المسجد الحرام؟ وما هي كعبة المسلمين؟ وما هي المدينة المقدّسة التي تحتضنها؟ ثم أين تقع القبلة الحقيقية للمسلمين.. هل هي في مكة المكرمة؟
ـــــ قد يستغرب المستمعون هذه التساؤلات ويستهجنونها، إلا أن المتابعين لِما يُنشر على الإنترنت يُدرِك سبب طرحي لها، حيث قام مؤخراً الملاحدة وبعض المحاربين للإسلام بنشر فيديو وفصل من كتاب (الجغرافيا القرآنية) لباحث كندي معاصر اسمه (دان جيبسون)، يتعرّض فيه لهذه التساؤلات.
ـــــ لربما سيضحك ويستسخف الكثير من الإخوة والأخوات من الكلام الذي سأنقله عن هذا الكاتب، ولكن للأسف فإنّ:
1ـ زخَم الحملة الإعلامية الأخيرة بهذا الاتجاه.
2ـ وطريقة تقديم المعلومات المتلاعَب بها.
3ـ والمعلومات السطحية لدى كثير من الشباب عن القرآن والتاريخ واللغة والفقه.
أدّى كله إلى وقوع المشاهدين والقرّاء في الفخ المنصوب لهم.
ـــــ فماذا جاء في الكتاب وفي الفيلم المنشور؟ قال جيبسون ـــ وباختصار ـــ أن:
1ـ الأدلة بما فيها القرآن تُثبت أن النبي (ص) لم يولد ولم يعش بمكة، وإنما في البتراء بالأردن.
2ـ أبوا النبي (ص) من الأنباط، وليسا من قريش! علماً بأن الأنباط عرب هاجروا من الجزيرة العربية في القرن السادس قبل الميلاد تقريباً، واستقرّوا جنوب بلاد الشام.
3ـ مكة لم تُذكَر نهائياً في أي مصدر تاريخي قبل القرن السابع الميلادي.
4ـ الوصف الخاص بالأرض الحرام في القرآن إنما ينطبق على البتراء لا على مكة.
5ـ العرب كانوا يحجّون إلى البتراء لا إلى مكة.
6ـ ولذا فإن قبلة كل المساجد ولأكثر من مائة سنة من الهجرة كانت باتجاه البتراء، وأنّ الأمويين وابن الزبير ثم العباسيين هم مَن زوّروا القبلة وجعلوها نحو الكعبة حيث مكة، وتم الانتهاء من تحويل كل المساجد إلى القبلة الجديدة بعد قرنين تقريباً من هجرة النبي!
7ـ كل المصاحف كانت خالية من آيات تحويل القبلة، وأنها أُضيفت لاحقاً.
8ـ كل ما ورد في كتب المسلمين عن القبلة مزوّر ولا قيمة له، وقد وُضع مِن قبل السلطات ليخدم مشروع تزوير قبلة المسلمين وأرضهم المقدّسة.
ــــ هذه تقريباً خلاصة الأفكار التي طرحها جيبسون، ومَن يشاهد الفيديو (الوثائقي) ــــ إن صح تسميته بهذا الاسم ـــ وتكون له شيء من الدراية التاريخية والقرآنية والفقهية واللغوية يدرك كيف يتلاعب جيبسون في ما اعتبرها أدلّة على صحة نظريته.
ــــ الخطبة لا تَحتمل الرّد التفصيلي، ولذا سأتحدّث عن نقطة واحدة فقط وبشكل جزئي، وسأستمزج آراءكم حول إكمال الرد على ما جاء في كلام جيبسون أو الاكتفاء بما سأقوله اليوم.
ـــــ من الأمور التي ادّعاها أنه لا يوجد أي مرجع تاريخي ذكر مكة المكرمة قبل القرن السابع الميلادي، ولكن هل تعلمون أنها مذكورة وبالاسم في العهد القديم من الكتاب المقدس وفي نص يعود تاريخه إلى قبل 3000 سنة تقريباً؟
ـــ قال عزوجل: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [سورة آل عمران:95-97].
ـــ إذاً الحديث هنا عن:
1ـ بيت الله الذي بناه إبراهيم ببكة.
2ـ وعند هذا البيت علامات وآيات بيّنات وواضحات على أن هذا هو البيت المقصود هنا.
3ـ ومن هذه العلامات وجود مقام إبراهيم عنده. أي أن تاريخه يعود إلى ما قبل 2500 سنة من البعثة النبوية الشريفة.
4ـ وأن هذا البيت يقع في الأرض الحرام.
ــــ ولطالما تساءل المفسِّرون لماذا ذكر الله مكة هنا باسم آخر لها عُرفت به وهو (بكة)؟!
ــــ وكلٌّ منهم قدّم تفسيره الخاص بذلك.. ولكن استمعوا الآن إلى المفاجأة التي تبيّن أنّ الأمر لم يكن اعتباطياً بل هي رسالة إلى أهل الكتاب ليُدرِكوا أن القرآن من عند الله، وأن محمداً رسول من عنده.
ـــــ في مزامير داود (الزبور) كلام عن الاشتياق إلى الحج، وإلى بيت الله الموجود في وادي بكة!
ــــ ففي الإصحاح 84 جاء النص العربي كالتالي: (تشتاق، بل تتوق نفسي إلى ديار الرب.... طوبى للساكنين في بيتك، أبداً يسبّحونك. سِلاه. طوبى لأناس عِزُّهم بك. طُرُقُ بيتِك في قلوبهم، عابرين في وادي البكاء). وهنا وقع التحريف في الترجمة.
ــــ هل النص الأصلي يقول وادي البكاء أم وادي بكة؟ في 14 ترجمة باللغة الإنجليزية على سبيل المثال جاءت الكلمة (بكة):As they pass through the Valley of Baka.
ــــ وفي النص العبري ما لفظه: (يعبري بعمق هبكه ...)
'yBUrY B'yMQ HBK'a M'yYN YShYThVHV GM-BUrKVTh Y'yTH MVUrH.
ــــ وهناك مورد آخر أقدم منه زمناً حيث يعود إلى عهد النبي موسى (ع). ففي الإصحاح 10 من سفر التكوين من التوراة نجد اليوم في الترجمة العربية نصاً يتحدث عن بعض قبائل العرب ثم يقول: (جميع هؤلاء بنو يقطان، وكان مسكنهم من ميشا....).
ــــ أما أوّل ترجمة للعهد القديم إلى العربية والتي تمّت على يد الرابي اليهودي سعيد بن يوسف الفيومي (ت 942م) فقد ترجم هذه العبارة قال: (كل هؤلاء بنو قحطان وكان مسكنهم من مكة...).
ـــ ما سبق نموذج فقط مما يفضح كذب التلفيقات التي ساقها جيبسون، والأدلة أكثر من ذلك، ومنها ما ذكره الجغرافي اليوناني بطليموس (ت165م) عن مكة وباسم (ماكورابا) أي بيت الرب، وكلمات العديد من المستشرقين حول تاريخ مكة، فضلاً عن علماء المسلمين.
ــــ إنّ ما ادعاه جيبسون حول عدم ذكر مكة في المصادر القديمة كلام لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، كيف والعهد القديم من الكتاب المقدس قد ذكرها مرة بهذا العنوان، وأخرى بعنوان بكة وارتباط الحج بها ووجود بيت الله فيها. ومثلما كذب الباحث في هذه النقطة كذب في نقاط كثيرة ذَكَرها، حين نفَى وجود آيات تحويل القبلة في القرآن، وأنّ هذا تم بعد أكثر مِن قرن مِن نزوله، وفي أنّ الرب كانوا يحجون إلى البتراء، وأن قبلة كل المساجد كانت باتجاهها لا باتجاه مكة وأمثال ذلك من سخافات. وعلى شبابنا أن لا ينبهروا بكل ما هو جديد ما لم يحمل في طيّاته أدلّة قويّة، فما أكثر ما يُزخرَف الباطل باستعمال العبارات ذات الدلالة القاطعة والأسلوب الشيّق في العرض، إلا أنّ هذا كلّه لا يغير من حقيقة أنه باطل ووهم. ورسالة أخيرة أوجّهها إلى الجهات المسؤولة عن الآثار وعن الحرمين الشريفين في المملكة العربية السعودية، فقد حذّر عدد من العلماء من سلبيات إزالة الآثار التاريخية فيهما خوفاً من أن يأتي ـــ في يومٍ ما ـــ مَن يشكك في أصل وجود النبي والتاريخ الإسلامي كما صُنِع من قبل مع السيد المسيح (ع) وآثارِه حيث بات البعض يتحدّث عن أسطورية شخصية السيد المسيح.. وما حذّروا منه وقع بحقِّ القبلة والكعبة ومكة والمسجد الحرام.. والمأمول منهم أن يتداركوا الأمر في ما بقي من آثار العهد النبوي، فهي مسؤولية كبرى أمام الله وأمام التاريخ.