خطبة الجمعة 2 جمادى الأولى 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: آباء يستغيثون


ـــــ الشعور بالقوة والعظمة وتفعيل حالة العزّة في الموضع الخطأ مِن أخطر أسباب تدمير جوانب الخير والصَّلاح في شخصية الإنسان.
ـــــ فمثلاً أن تشعر بالقوة والعظمة والعزّة حين تُنزِل الهزيمة بالصهاينة وتُذلّهم فهذا لا ضير فيه، بل هو أمرٌ مطلوب وممدوح، وشعورٌ في محلّه. ولذا قال (تعالى): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) [المائدة:54].
ــــــ وقال: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29].
ــــ ذكرت كتب السيرة النبوية أنه لمّا بلغ رسول الله (ص) وادي ذي طوى يوم فتح مكة، ويقع هذا الوادي إلى الشمال من المسجد الحرام، وقف على راحلته وإنه (ص) (لَيَضعُ رأسَه تواضعاً لله، حين رأى ما أكرمه الله به مِن الفتح، حتى أن عُثنونَه) طرف لحيته المباركة (ليَكاد يَمس واسطة الرحل).
ـــ بينما في عمرة القضاء حين دخل النبي (ص) والمسلمون مكة بعد كل سنوات المحنة والتهجير والحرب، أخذ عبد الله بن رواحة بزمام ناقته (ص) وأنشد أبياتاً تُظهر القوة والعزة، فقال له الخليفة عمر: (مه يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله؟ وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله (ص): خلّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم مِن نَضح النبل) أي رشَقات السهام المتتالية.
ـــــ ثم وجّه النبي ابنَ رواحة لقولٍ أفضلَ وأكثرَ عِزّة. قال له: (إيهاً يا بن رواحة، قل: لا إله إلا الله وحده. صدق وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده).
ــــ هذا موقف، وذاك موقف، وكلٌّ منهما يتطلّب أسلوباً مناسباً في التعامل، والخلط بينهما قد تكون له نتائج وخيمة أحياناً.
ــــ ومن هنا نقول أنّ من حقّ الأبناء أن يشعروا بالاعتزاز بما يمتلكون من علم وثقافة، ولكَّن تعاظُم الاعتزاز بالنفس والشعور بالتفوّق على الوالدين علمياً أو فكرياً أو مهنياً أو جسدياً، أو في غير ذلك من المجالات، سيجرّ إلى نتائج شبيهة لما ورد في آيات سورة الأحقاف.
ــــ أوَّلُ حقيقة يجب أن يُدركها الشاب أنّ التفوّق لا يكون بالعلم وحده، فهناك مَن يتفوّق بأخلاقه، وهناك مَن يتفوّق بحكمته، وهناك مَن يتفوّق بإيمانه، وهناك مَن يتفوّق بأعمال الخير، وهناك مَن يتفوّق بقدراته المعنوية والروحيّة.. إلخ.
ـــ ثم إنْ كنتَ تجدُ أنّك تحملُ عِلماً جمّاً، أو ثقافةً معاصرة، فتذكّر جمالَ تواضعِ العلماء.. فبتواضعِ الإنسان العالِم يمكنه أن يقتحم قلوب الناس قبل أن يقتحم عقولهم، ويزداد عظمةً في أعينهم، وفي الحديث النبوي: (مَن تواضع لله، رفعه الله).
ـــ وقديماً قيل: (أكبر منك بيوم أفهم منك بسنة)! أي أن الحياة خبرات، والخبرات معرفة.
ـــ ثم إنْ كنت تجد أنّ تفكيرهم قد عفا عليه الزمن، فتذكّر أنّهما اللذان صنعاك، وأعطياك مِن جسديهما وقلبيهما وروحيهما وعقليهما ما أوصلك إلى ما صرتَ عليه.
ـــــ وما ذكرتُ بشأن التفوّق العلمي ينسحب على سائر نواحي التفوّق التي قد يتميّز بها الأبناء، دون أن يعني ذلك الترفّع على الوالدين واحتقارهما.
ـــــ يجب أن ننتبه إلى أن هناك قابلية كبيرة لدى الإنسان أن يقع في فخ الكِبر.. الأرضيّة مهيّأة بشكل كبير. قال أمير المؤمنين (ع) في الخطبة القاصعة: (فَاعْتَبِروا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَة، لاَ يُدْرَى أمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الاْخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَة وَاحِدَة. فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟).
ـــــ ويضاف إلى ما سبق أنّ الإنسان القويم في سلوكه هو الذي لا يتنكّر لأصحاب الجميل.. ومِن بين كل الناس، مَن أولَى بذلك مِن الوالدين؟
ـــــ وليتذكّر كل شاب وشابّة أنّ حال الوالدين ـــ وإن لم يُعبِّرا عن ذلك بالقول ـــ هو كما جاء في دعاء الإمام زين العابدين (ع) في الصحيفة السجّادية لولده حيث قال: (اللَّهُمَّ وَمُنَّ عَلَيَّ بِبَقَاءِ وُلْدِي، وَبِإصْلاَحِهِمْ لِي، وَبِإمْتَاعِي بِهِمْ) يا رب اجعلهم سبباً لسعادتي كلما رأيتُهم، لا سبباً للحسرة والألم النفسي (إلهِي، امْدُدْ لِي فِي أَعْمَارِهِمْ، وَزِدْ لِي فِي آجَالِهِمْ، وَرَبِّ لِي صَغِيرَهُمْ وَقَوِّ لِي ضَعِيْفَهُمْ، وَأَصِحَّ لِي أَبْدَانَهُمْ وَأَدْيَانَهُمْ وَأَخْلاَقَهُمْ). وأنْ لا محلّ للكِبر على الأبوين بأيِّ لحاظ، مهما تعاظم شأنُكم ــــ أيها الشباب ــــ واحذروا أن تقعوا في حبائل إبليس الذي حكَم على نفسه بالخروج من رحمة الله في لحظة كِبر، وأقسَصم أن يجعل داءَه هذا وباءً يصيب الناس، فيُبلِسُهم عن رحمة الله.. أيها الشباب، تواضعوا لله، تواضعوا مع آبائكم وأحسِنوا إليهم.. يرفعْكم الله ويُعلي شأنكم.