خطبة الجمعة 2 جمادى الأولى 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: أبناء متمرّدون


ــــ في سورة الأحقاف عرضٌ لصورتين متضادّتين من الأولاد.. صورة الولد المُحسن المنطلِق في إحسانه من إيمانه بالله ومن أخلاقه القويمة، وصورة الولد المتمرّد المنطلق في تمرّده من القاعدة الفكريَة الضالّة التي تؤثِّر على سلوكيّاته تجاه والديه، وتجعله شخصاً وقحاً ومتجبّراً.
ــــ (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) تعبيرٌ عن تعبها وتألّمها اللذان يدفعانها إلى التبرّم من الحمل والولادة.
ـــ والآية تسعى لتحريك الجانب العاطفي عند الأبناء تجاه الوالدين لعل ذلك يثمر عن إيقاظ الجانب الإنساني فيهم من خلال هذه الحركة العكسية في الزمن بما تحمل من معاناة وذكريات ودلالات.
ــــ (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) ليس شهراً ولا شهرين.. ثلاثون شهراً من التعب والرعاية اللصيقة والسهر والدموع والآلام.
ـــــ (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي أنّ هذا الإحسان بالوالدين يجب أن يستمر حتى في زمن بلوغ الأشد.
ــــ وجاء التخصيص بزمان بلوغه الأشدّ لأنه زمن يكثر فيه الانشغال، بالإضافة إلى الشعور بالقوة والاستقلالية عنهما، خاصة عندما يتزوّج... فجاء التنبيه بأنْ لا يفتُر عن الإحسان إلى الوالدين.. والأربعون كمال الأشدّ جسدياً وعقلياً.
ــــ (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) وهذا من الإحسان إليهما، فهو مأمور بالدعاء لهما، بحيث لا يشغله الدعاء لنفسه وأوضاعه عن الدعاء لهما.
ــــ وفي هذا إشارة إلى أن الإحسان إليهما يجب أن يتم في غيبتهما كما يتم في حضورهما.
ــــ (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ). وهكذا تنتهي الصورة الأولى بأروع ما يكون في خواتيمها.
ــــ ثم تعرض الآيات الصورة السلبية المقابلة، صورة الولد المتمرّد: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي) في احتقارٍ وانزعاج منهما لأنهما يفرضان نفسيهما عليه، ويتدخّلان في حياته، في الوقت الذي يرى أنه لا يحقّ لهماالاعتراض على فكره وسلوكه، لأنهما لا يملكان الدرجة العليا من الفكر والتقدّم والثقافة المعاصَرة في نظره.
ــــ (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) هكذا يبقى قلب الأب وقلب الأم في لوعة وألم وحسرة لأنهما يتمنّيان له ما يتمنّيان لنفسيهما.
ـــ وهذه عاطفة طبيعية لدى الأبوين، حتى أن نوحاً (ع) في اللحظات الحاسمة من الطوفان دعا الله (عزوجل) أن يستثني ابنَه من الإهلاك، وهو يعلم أنَّ ابنَه ضمنَ الفئة التي حكَمَ الله عليها بالإهلاك: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هود:45-46]. هذه هي عاطفة الأبوين الطبيعية التي طغت حتى على الحالة النبوية عنده.
ــــ وأما ردّة فعله على كل هذا الحنان والحب والتألّم: (فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ).
ــــ ولهذا النموذج من الأبناء مصير أخرويٌّ بائس: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي العقاب الذي ينتظرهم في الآخرة (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ).
ــــ وستكون لنا في الخطبة الثانية بإذن الله وقفة مجدَّدة مع هذه الآيات.