خطبة الجمعة 27 ربيع الأول 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: العملات الرقمية


ـــ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء:29-30].
ـــ كان الناس يتعاملون على أساس المقايضة، بتبادل مُلكية شيئاً بشيء.. ثم اختُرعت النقود الذهبية والفضية.. ثم أوراق البنكنوت.. وهناك اليوم البطاقات البَنكية والائتمانية.. ثم ظهر في السنوات الأخيرة ما يُعرف باسم العملات الرقمية. وقبل الحديث عنها، لابد أن نأخذ بعين الاعتبار أمرين:
ـــ الأمر الأول: أننا عندما نتحدّث عن الآثار السلبية المترتبة على ما عبَّرَت عنه الآية بعنوان (أكل المال بالباطل)، فإننا لا نتحدّث عن تلك المترتّبة على الفرد فقط.
ـــ فالقرآن عندما يتحدّث عن المجتمع يتحدّث عنه باعتباره وحدة عضوية. ولذا فإن تقييم الأمور، بما في ذلك المعاملات، من حيث حُسنها وقُبحها، ونفعها وضررها، يجب أن يُلاحَظ فيه ذلك أيضاً.
ــــ فعندما تحدّثَت الآية عن الأموال والتصرّف بها، والتحذير من العدوان عليها، فإنها تحدَّثَت عنها بعنوان «أَمْوَالَكُمْ».. فهل يقوم إنسان عاقل ورشيد بسوء التصرف بأمواله النقدية بأن يحرقها مثلاً؟
ــــ بالطبع لا.. هكذا عليكم أن تتعاملوا مع أموال الآخرين في دائرة المجتمع الواحد.. فالضرر الذي يلحق بملكية سائر الأفراد في هذا المجتمع ضرر بكم أيضاً، لأنكم وحدة واحدة.
ــــ وعندما تحدّثَت عن الأفراد الذين يتألّف منهم المجتمع، محذِّرةً من الاعتداء عليهم بالقتل والظلم، فإنها تحدّثَت عنهم بصفتهم «أَنفُسَكُمْ».. فهل يقبل الإنسان العاقل بأنْ يُلحِق الضرر بنفسه فينتحر أو يقطع لسانه أو يقتلع عينيه مثلاً؟
ــــ ومن هنا ــــ في التشريعات الخاصة بالمسائل الاقتصادية ــــ لا ينبغي أن يُلحَظ النفع والضرر، والحُسن والقُبح، بما له علاقة بالفرد فقط، بل أن يُلحَظ أيضاً تأثيره على اقتصاد المجتمع، وترسيخ الطبقية الحادة، وتكوين الثروات لبعض الأفراد دون عائد حقيقي على التنمية، وغير ذلك.
ــــ ولو دقّقنا في الشروط المتعلقة بصحة البيع والشراء وسائر التعاملات التجارية في التشريع الإسلامي، فإننا لن نجدها من أجل حفظ حقوق الأفراد فقط، بل ومن أجل الحفاظ على الاقتصاد العام وتنميته أيضاً. وبالتعبير القرآني: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) [الحشر:7].
ـــ الأمر الثاني: يبدو أن الإسلام يربط دائماً أو غالباً بين نماء المال وبين حصول ناتج خارجي حقيقي، أي أنه يمنع ـــ أو على الأقل لا يشجّع ـــ التعاملات التي ينمو من خلالها المال دون مردود تنموي حقيقي، وعلى الأرض، وفي الواقع.
ــــ وقد ذكر الشهيد الصدر في (اقتصادنا) أنَّ من نتائج النظرية الإسلامية التي توصّل إليها: كون الحصول على الربح من دون عمل حقيقي أو خدمة أو إنتاج يُعدّ من موارد أكل المال بالباطل.
ــــ وقد أشار المرجع الديني السيد فضل الله إلى أنَّ أحدَ أسبابِ تحريم الربا هو أنَّ صاحب المال يكسب دون إنتاج ولا عمل حقيقي ولا خدمة.. ومن هنا فهو أكل للمال بالباطل.
ــــ ومن هنا لم يصحِّح بعض الفقهاء صوراً من التعامل بالأسهم، لأنها لا تستجمع شرائط عملية البيع والشراء، من قبيل:
1ـ التعامل بأسهم الشركات الورقية (أي الشركات التي لا يكون لها نشاط اقتصادي حقيقي).
2ـ والبيع الآجِل.
3ـ وعدم وجود مال عيني ضمن الشركة بما يقابل تلك الأسهم.
ــــ واليوم صارت العملة الرقمية مفردة مالية جديدة بدأت تأخذ مكانها في عالم الاقتصاد، ويجب أن تُدرس بدقة وحذر.
ــــ في تسعينيات القرن العشرين، ومع بدء بروز تكنولوجيا المعلومات والإنترنت، ظهر الذهب الإلكتروني (E-gold) باعتباره صورة جديدة من صور تحويل وتبادل العملات عبر الإنترنت، ولكن بعيداً عن الأنظمة والقوانين المالية المعتمدَة في العالم.
ـــ وبعد ذلك بدأت تظهر بعض العملات الرقمية.. عملات ليس لها وجود حقيقي في الخارج، ولكن لها قيمة شرائية، وهذه القيمة يمكن أن ترتفع، ويمكن أن تنخفض، ويمكن أن تتلاشى نهائياً.
ـــــ يعني يمكن لك أن تتملك كمية منها، وتنتظر إلى أن ترتفع أسعارها مثلاً فتبيعها وتربح.. أو أن تشتري بها بعض البضائع من خلال شبكة الإنترنت... كما ويمكن أن تشتريها بمبلغ وقدره، فإذا بها بلا قيمة نهائياً، وضاعت بذلك أموالك كلها.
ــــ في مطلع العام الحالي كانت قيمة إحدى هذه العملات لا تتعدى الألف دولار، وقبل أيام ارتفعت لتصل إلى 11 ألف دولار! ثم في ليلة واحدة فقدت ما يقارب الـ 20% من تلك القيمة. تجاوزت الآن القيمة الإسمية الإجمالية لهذه العملة 167 مليار دولار! تخيلوا لو أنها تبخّرت في ليلة وضحاها!
ـــ هناك مصطلح متداول في عالم الاقتصاد، وهو مصطلح (الفقاعة الاقتصادية Economic bubble) وذلك عندما تكون هناك مضاربة على سلعة فيرتفع سعرها إلى مستويات عالية جداً دون أساس واقعي، أو أن يشهد اقتصادٌ ما رواجاً كبيراً لفترات زمنية محدودة، دون أن تستند إلى قاعدة إنتاجية متينة.. في الحالتين يكون الوضع ـــ كانتفاخ الفقاعة ـــ قابلاً للانفجار في أية لحظة.
ــــ ما جرى لسوق المناخ في الكويت في ثمانينات القرن العشرين، وللبورصة قبل سنوات قليلة أيضاً، وفي أزمة الرهن العقاري عام 2007-2008، وما عُرف باسم (جنون أزهار التيوليب الهولندية في سنة 1637) إذ ارتفعت قيمة بصيلات هذه الزهرة إلى أسعار خيالية حتى بيع القليل منها مقابل أرض زراعية بماشيتها! كلها أمثلة على هذه الفقاعات الاقتصادية المُغرية والخطيرة.
ــــ ويؤمن عدد من الاقتصاديين أن العملة الرقمية مجرد فقاعة.. لأنها لا تعتمد على إنتاج حقيقي.
ــــ نعم، الباحثون عن الثراء السريع، والساعون وراء تحويل الأموال بطرق غير قانونية، وجماعات غسيل الأموال، وأمثال هؤلاء قد يناسبهم التعامل بالعملات الرقمية.
ـــ وللأسف فإنَّ كثيراً من اقتصاديات العالم لا تتعلّم من الدروس السابقة، لأنها لا تفكّر إلا بالربح، ففي حين جرّمت بعض الدول التعامل بالعملات الرقمية واعتبرتها مضرّة بالاقتصاد، فإنّ بعض الدول وجدت نفسَها أمام أمرٍ واقع، وقبِلَت بها بشرط خضوعها للضرائب مثل الممتلكات، بل ونجد أنَّ ولاية شيكاغو أدرجتها في بورصتها.. ولربما تتّخذ بورصات أخرى نفس الإجراء في المستقبل.
ـــ مسألة العملة الرقمية من قبيل (البِتكوين والإثيريوم واللايتكوين) باتت مفردة جديدة وحساسة في عالم الاقتصاد، وهناك حديث جاد عند بعض الاقتصاديين في العالم عن أنَّ صعودَ قيمةِ بعضِها وبصورة كبيرة جداً مؤشّرٌ على أنّها دخلت في منعطف جديد، وأنها ستفرض نفسَها عاجلاً أو آجلاً على الساحة الاقتصادية العالمية كعملة من العملات المطروحة في الأسواق الحقيقية، وقد قامت بعض الدول ـــ تبعاً لمصالحها الضرائبية ـــ بالاعتراف بها ووضع القوانين الخاصة بتنظيم التعامل بها. إلا أنّ مكمنَ الخطورة يتمثّل في أنها سلعة بلا مردودٍ إنتاجيٍّ حقيقي.. ولذا فإنَّ العملة الرقمية بحاجة إلى معالجة فقهية اقتصادية دقيقة، خاصة وأن المسألة لم تُطرح إلى الآن فقهياً بصورة تُشبِع كلَّ جوانبِها، وما هو متوافر عبارة عن استفتاءات تُعد على أصابع اليد وقائمة على تصوّرات فردية وسطحية. ونتطلّع إلى أن لا تُعالَج المسألة كفقه يرتبط فيه الحكم بتكليف الأفراد، بل كمفردة اقتصادية تؤثّر على المجموع، ولذا فهي بحاجة إلى قراءة اقتصادية متكاملة أوَّلاً، ومِن ثَمَّ عرضها على الفقهاء ومناقشتها وفق الأسس والعناوين الكبرى في التشريعات الاقتصادية الإسلامية، لتكون الفتوى أقرب إلى تلك الأسس وبمعالجة واقعية تحقِّق المصلحة وتدفع الضرر.