خطبة الجمعة 20 ربيع الأول 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: التحرش الجنسي ـ القسم الثاني

ــــ تحدثت من قبل عن التحرش الجنسي، وأرجأت الحديث عن العوامل المساعدة على الوقاية من هذه الظاهرة الاجتماعية السلبية ووسائل العلاج من وجهة نظر الإسلام. وسأتناول في هذه الخطبة بعضاً منها. وذكرت في حينه أن سورة النور توضّح الكثير من معالم المعالجة الإسلامية للمسألة.
ــــ فهذه السورة جاءت بمجموعة من التشريعات الفردية، والقوانين الجمعية، والأخلاق، والآداب، وفلسفة كل واحدة منها. قال تعالى في أول السورة: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) تشريعات وتوصيات واضحات الدلالة والغاية (لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ولعلكم تعتبرون وتستفيدون.
ــــ عندما نتحدث عن الصدق والأمانة والشجاعة والسخاء والعدالة وأمثال ذلك فإننا نتحدّث عن الأخلاق.. عن القيم والمباديء التي تَحكم العلاقات الإنسانية، والتي إذا أخللنا بشيء منها ترك ذلك أثراً عميقاً وترتّب عليه خلل اجتماعي.
ــــ وأما الآداب فهي السنن، والعادات، والتقاليد، وفنون التعامل، التي قد تكون جارية في مجتمع ما، ويعتبرها العُرف القائم أو المتوارَث أو المشرَّع أمراً مطلوباً وزينةً للفعل أو القول، ومكمِّلاً لحُسنه.
ـــ وهذه الآداب ليس بالضرورة أن تكون موحدة لكل المجتمعات وفي كل زمان، على خلاف الأخلاق.
ـــ فالصدق من الأخلاق، ولو لجأ الناس إلى الكذب مثلاً انعدمت الثقة بين الناس اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وعلمياً واقتصادياً.. أما قول: حاضر، من عيوني، ما يصير خاطرك إلا طيب.. فمن الآداب.
ــــ بر الوالدين من الأخلاق.. وأما تقبيل يد الأبوين فمن الآداب.. وعلى هذا فقس.
ـــ سورة النور، ومن أجل تحقيق بيئة إنسانية سليمة وعفيفة في العلاقة بين الجنسين جاءت بالأمرين معاً.. الأخلاق والآداب.. بالإضافة إلى التشريعات والقوانين ونظام العقوبات، وكلُّها بحسب تعبير الآية الأولى من السورة: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ).
ـــ مثلاً في الآيتين 30-31 منها قدّم الله تعالى بعض التشريعات: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ....).
ـــ وفي الآيات 16-18 حديث عن الجانب الأخلاقي في التعاطي مع الخبر الكاذب الذي يمسّ أعراض الناس: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
ــــ وفي الآية 58 منها صورة من الآداب البيتية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
ــــ وللقانون المُحكَم والصرامة في تطبيقه دور مهم أيضاً، وفي المثل: (مَن أمِن العقوبة أساء الأدب).
ــــ فعندما يغيب القانون، أو لا يكون صارماً، أو نجد التراخي في تطبيقه، أو عندما يُمارَس بحق البعض دون البعض الآخر بلحاظات مختلفة كالنفوذ وسطوة المال والوساطات، أو تحت تأثير الرشاوى وشراء الذمم.. في مثل هذه الحالات نجد تفشّي الجرأة على كسر القانون وبكل وقاحة.
ـــ حتى في الدول المعروفة بصرامتها القانونية كالولايات المتحدة، نجد أن بعض التفاصيل المرتبطة بالإجراءات، ونقاط الضعف في القانون والتي يستغلها المحامون المتخصّصون في تبرئة المجرمين، تساعد على الجرأة على القانون وارتكاب الجريمة.
ــــ البيانات على موقع (رين RAINN) الخاص بأكبر منظمة تعمل ضد العنف الجنسي في الولايات المتحدة أظهرت أن 994 من كل 1000 مرتكب لجريمة الاغتصاب في أمريكا يفلتون من العقوبة!
ـــ بعد أن ذَكرَت الآية 178 من سورة البقرة عقوبة القصاص، بيّنت الآية اللاحقة أن فائدة الصرامة في القانون تعود على المجتمع بالفائدة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
ـــ المسألة ليست مسألة تشفّي أو تعطّش للعقوبة أو رغبة في فضح الناس ونشر غسيلهم.. المسألة هي مسألة حياة أو موت للمجتمع.. هذه هي وظيفة القانون في المجتمع.
ـــ ونجد في الآية الثانية من السورة: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ).
ـــ ومن أجل أن لا يكون هناك سوء استغلال لهذا القانون بإلقاء التهم جزافاً جاء التشريع اللاحق: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النور:4-5].
ـــ يعني الفرق بين العقوبتين عشرون جلدة فقط.. بل إنَّ منعَهم من الشهادة في المستقبل ما لم يتوبوا تعتبر ضربة قاصمة لمكانة الفرد وقيمته المعنوية في المجتمع، وهي أشد من عقوبة الجلد.
ــــ وأخيراً تأتي سورة النور لتبيّن لنا أن أهميّة التنشئة الإيمانية في صياغة الشخصية: (فِي بُيُوتٍ).. سواء أكانت هذه البيوت هي المساكن التي يعيش فيها الناس أو المساجد أو المدارس أو غيرها، هذه البيوت: (أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ). فعندما تعيش هذه البيوت هذه الأجواء الإيمانية والعبادية والتقوائية والإنسانية الرفيعة والطاهرة، فإنها ستُخرّج أفراداً أسوياء في سلوكهم الاجتماعي، سواء فيما يرتبط بالعلاقة بين الجنسين، أو ما هو أشمل من ذلك، الأمر الذي يدفعنا إلى التأكيد على ضرورةإعادة الحيوية والفاعلية للدور التربوي للأسرة وللمدرسة وللمسجد، وبما يوازي على الأقل التأثير الكبير لوسائل الإعلام والمعلومات على الأبناء... وللحديث تتمة بإذن الله.