خطبة الجمعة 13 ربيع الأول 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: مآسي الأمّة والكفر بالنعمة


ــــ (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].
ــــ إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف يعني إحياء ذكرى النعمة الكبرى التي منّ الله عزوجل بها على البشرية برسالة سيد النبيين والمرسلين محمد (ص).
ـــ وواحدة من أهم منجزات هذه الرسالة ما جاء في الآية الشريفة التي صدّرت بها حديثي.
ـــ إلا أن هذه النعمة تحتاج إلى رعاية، وإلى مَن يحوطها ويدافع عنها، وإلا فإنّها ستزول، حالها حال بقية النعم التي إن لم يُحِطها الإنسان برعايته فإنها ستكون مهدَّدة بالزوال.
ــــ ولنلاحظ كيف خاطب النبي موسى (ع) قومَه بعد أن منّ الله عليهم بنعمة النجاة من ظلم فرعون وطغيانه: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ) [إبراهيم:6].
ـــ ثم أعقب ذلك بالتحذير من الكفر بهذه النعمة حيث قال بعد الآية السابقة: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
ـــ هذا المسار بتذكير بني إسرائيل بعظيم النعمة، والتحذير من الكفر بها، والتخويف مما سيترتّب عليه من عذاب شديد، تكرر في الخطاب القرآني الخاص بأمة محمد (ص) بعد التذكير بعظيم نعمة التأليف والتآخي.
ـــــ قال تعالى في الآية 105 من سورة آل عمران: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
ـــ هناك اختتمت الآية بالإنذار من العذاب الشديد، وهنا بالعذاب العظيم.. والمؤدى واحد.
ــــ وليس من الضروري أن نفهم هذا العذاب بكونه عذاباً أخروياً فقط، بل إن الاقتتال، والموت، والخوف، والجوع، والفقر، والذل، وتسلّط الأعداء، وأمثال ذلك كلها من صور العذاب الدنيوي العظيم.
ــــ والآن تعالَ وانظر إلى حال أمة محمد (ص).
ــ فلو أردنا أن نقدّم وصفاً مختصراً لأهم ملامح المشهد السياسي والأمني ــــ فقط ــــ في العالم الإسلامي في أجواء المولد النبوي الشريف في هذا العام، فيمكننا أن نختصر ذلك في العناوين التالية:
ــــ أولاً، انقسام سياسي وأمني حاد بين جبهتين ومعسكرين رئيسين، وبنكهة طائفية، ومساعي صهيونية حثيثة لاستثمار هذا الانقسام، ومن بين ذلك ملفّا التطبيع ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
ـــ الحديث عن التطبيع مع العالم العربي زادت وتيرته بشدّة هذه الأيام، وأصبح مُقلقاً لكل مَن يحمل في داخله شيئاً من الإحساس بالعزة والكرامة والغيرة الإسلامية أو العروبية.
ـــ قناة تلفزيونية محلية تحاور أحدهم فيتحدّث بجرأة عن أن وجود إسرائيل هو الحق الإلهي وأنه لا يوجد شيء اسمه فلسطين وأن الفلسطينيين هم الشتات، ويدعو لإقامة تحالف خليجي إسرائيلي.. ثم لا نجد أية ردّة فعل ذات أهمية.
ـــ لو كان قد تحدث عن سنة أو شيعة لقامت الدنيا ولم تقعد.. لو طعن في مطوّع سلفي أو معمم شيعي لقامت الدنيا ولم تقعد.. وأما أن يتحدث عن القضية الأولى للعالم الإسلامي فغير مهم.
ــــ أنا لا أريد أن أعطي لشخص المتحدّث قيمة... ولكن أقول هكذا أصبحت معاييرنا، وهكذا تم توجيه بوصلة اهتماماتنا وأولوياتنا، وهكذا دوّخونا بصراعاتنا البينية.. وقد نجحوا في ذلك بامتياز.
ــــ أما قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والصادر سنة 1995 والمخالف ـــ على أقل تقدير ـــ لقرارات الأمم المتحدة التي تقرّ بأن القدس الشرقية أرضٌ محتلة، فقد أجّلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تطبيقه مراعاةً لمصالح أمنها القومي. إلا أن الحديث اليوم بات قوياً بأن الإدارة الحالية ماضية قُدُماً في هذا الاتجاه، والذي يشجّعها على ذلك هو المشهد العام لأوضاع الأمة.
ـــ ثانياً، استمرار معاناة الشعب اليمني في أجواء الحرب القائمة في هذا البلد الذي يُعدّ من أفقر دول العالم من الناحية الاقتصادية، وحيث تعمّه المجاعة وتفتك به الملاريا.
ـــ ثالثاً، استمرار مأساة المسلمين الروهينجا الذين تمّ الاتفاق بين حكومتي بنجلاديش وميانمار على أن يعودوا إلى وطنهم بشرط أن يبقوا في ملاجيء مؤقتة فيها، لا أن يعودوا إلى بيوتهم وممتلكاتهم. وحتى هذا المقدار من الاتفاق السيء لم يُنفَّذ.
ــــ رابعاً، تفجير وعدوان إرهابي على المسجد الروضة بسيناء، ترك وراءه أكثر من ثلاثمائة شهيد، ولم يكن لهم ذنب سوى أنهم لبّوا نداء صلاة الجمعة، وأنهم وقعوا ضحايا أهداف سياسية قذرة.
ـــ وإن كان قد تم القضاء على دولة الخرافة الإرهابية التكفيرية بفضلٍ من الله سبحانه، من خلال تضحيات وجهود المخلصين من أبناء الأمة، إلا أن مساعيها الجهنّمية لتدمير العالم الإسلامي لن تهدأ، وتوظيفها من قبل بعض الأطراف التي لا تريد الخير لهذه الأمة، أو التي لا يهمها إلا مصالحها الخاصة والضيقة، سيبقى مستمراً، بغض النظر عن الشعارات التي تُرفَع من حين للآخر.
ــــ وهذا يستدعي اليقظة وعدم التراخي والاستمرار في مواجهة ومحاربة واستئصال الإرهاب التكفيري، لا على المستوى الأمني والعسكري فحسب، بل وعلى المستوى الفكري أيضاً.
ـــ لقد ذكّر الله عزوجل المسلمين بعظيم المنّة عليهم إذ أرسل إليهم محمداً (ص) الذي يحتفل العالم الإسلامي في هذه الأيام بذكرى مولده الشريف فقال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، وكانت نعمة الألفة والتآخي والتحاب والتعاضد والوحدة في الموقف من أعظم تجلّيات تلك الرحمة الإلهية المهداة للبشرية، ومن هنا حَمَّلنا رسولُ الله (ص) مسؤولية الحفاظ عليها، وحذّرنا من الارتداد العملي إلى السيرة الجاهلية التي كانت تستحكم فيها العداوة، مما يمثّل كفراً صريحاً بتلك النعمة، حيث قال (ص) في حجة الوداع وقد طَلب من الناس أن يُنصِتوا إليه تأكيداً على أهمية الأمر وخطورته: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يَضرب بعضُكم رِقاب بعض).. ومِن المؤسف حقاً أن نجد الأمة قد وقعت فيما حُذِّرت منه وبأبشع الصور وأخسِّها.. مما يستدعي من كل المخلصين أن يسعوا في الاتجاه الذي يعود بالأمة إلى المسار المتناغم مع الوصيتين الإلهية والنبوية، وإلا فلن تذوق بكفرها بعظيم النعمة إلا العذابَ العظيم.