خطبة الجمعة 6 ربيع الأول 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: التحرش الجنسي، ج 1

ـــ خلال الأسابيع القليلة الماضية كَثُر الحديث عن (التحرّش الجنسي)، وظهرت اتهامات بالعشرات لشخصيات بارزة في عالم السياسة والرياضة والفن، وصار الموضوع مُثاراً بقوة في وسائل الإعلام.
ـــ وباتت بعض النساء يتحدّثن ــــ وبجرأة ــــ عن تعرّضهن للتحرش من قبل مسؤولين أو مشاهير في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا وغيرها، وتحوّلت بعض الحالات إلى دعاوى في المحاكم وتداعيات.
ـــ وبدأت بعض (الهاشتاقات) بهذا الخصوص تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عناوين مختلفة، وتستقطب أعداداً هائلة من المتابعين والمتفاعلين معها.
ـــ هذا الموضوع الحساس ليس بالأمر الجديد، ففي سنة 2012 ظهرت مثلاً مبادرة شبابية في مصر تحت عنوان (شُفت تحرّش)، وفي 2013 ظهرت مبادرة أخرى بعنوان (كرامة بلا حدود).
ــــ هذه المبادرات تقوم بتوثيق حالات التحرش لدعم الضحايا في الشكاوى أو القضايا المرفوعة من قبلهن، وتدريب النساء على أساليب الدفاع عن النفس، وإقامة برامج وندوات توعوية، وغير ذلك.
ــــ وبحسب قناة (فرانس 24) فإن تقريراً لمؤسسة (تومسون رويترز) شمل 19 مدينة كبيرة (أي عدد
سكانها لا يقل عن 10 ملايين نسمة)، بيّن أن القاهرة هي أخطر مدينة على النساء بهذا اللحاظ.
ـــ (المركز المصري لحقوق النساء) تحدّث في سنة 2008 عن أن 83% من النساء أكَّدن التعرض للتحرّش، العديد منهن بصفة يومية، كما اعترف 62% من الرجال أنهم يتحرشون بالنساء.
ــــ وفي دراسة أجرتها الأمم المتحدة في سنة 2011 يتبيّن لنا أن 99% من النساء في مصر يتعرّضن للتحرش في الطرقات، و91% منهن لا يشعرن بالأمان في الشارع نتيجة لذلك.
ــــ وفقًا لدراسة أجريت عام 2016، فإن 84% من النساء العاملات بالجيش الأمريكي يتعرضن لهذا النوع من التحرش أثناء تأديتهنّ لواجبهنّ العسكري. وفي دراسة أخرى أن ثلث النساء العاملات في الولايات المتحدة تعرّضن لذلك في مكان العمل.. هذان نموذجان من مجتمعين مختلفين.
ــــ إذاً هناك مشكلة، فما هي الأسباب؟ وكيف يمكن التخفيف من حدّة هذه الظاهرة إلى مستوى كبير؟
ـــ للإسلام رؤية خاصة متعددة الجوانب، وقائية وعلاجية، وتتداخل فيها عناصر كالتقوى، والتربية، والأخلاق، والآداب، والأحكام الشرعية والقضائية، والعقوبات الجزائية، بالإضافة إلى البُعد الأخروي.
ــــ البعض يتصوّر أن المطلوب فقط هو أن ترتدي المرأة اللباس الشرعي، وحينها ستتقلّص الظاهرة بشكل كبير. ولذا عادةً ما يُقال أن السبب هي المرأة نفسها.. فلتحتشم في لباسها.. هي المحرِّضة على ذلك بإظهار مفاتنها، فلباسها بمثابة دعوة منها للتحرش بها. وتصوّروا أن هذا الكلام صدر من أطفال المدارس المشتركة في مصر حين سئل الذكور منهم لماذا تتحرشون بزميلاتكم؟
ــــ ويقول بعضهم: أريد بهذا التحرش تأديبَ المرأة لتحتشم، ولأبيّن لها أن لباسها هو السبب.
ـــ والحقيقة أن الالتزام باللباس الشرعي يمثّل عاملاً رئيساً، إلا أنه لوحده غير كاف.
ـــ فكثير من نساء مصر يرتدين نوعاً من (الحجاب)، وقد قرأت أنه في عام 2007 كانت نسبة ارتداء الحجاب قد بلغت 90%. ومع هذا فإن نسب التحرش هناك بلغت تلك المستويات الخطيرة.
ــــ الإسلام لا يدعو فقط إلى التزام المرأة اللباس الشرعي، هذه مفردة ضمن منظومة متنوّعة تقع مسؤولياتها على الأفراد ذكوراً وإناثاً، وكذلك على الدولة والمؤسسات.. ولن يمكن التخفيف أو الحد من هذه الظاهرة بإلزام المرأة بالباس الشرعي فقط.. هذه رؤية قاصرة وسطحية جداً.
ــــ ولست هنا في وارد الإحاطة بكل عناصر هذه المنظومة، فالموضوع متشعّب، ولكن سأذكر بعض المفردات فقط، ويمكن لمن يحب أن يمتلك تصوّراً أوّلياً حولها أن يقرأ ويدرس سورة النور بتمعّن.
ـــ بالطبع يتصوّر البعض أن علينا التركيز على تعليم الفتيات سورة النور، وتجنيبهن تعلّم سورة يوسف، وذلك بحسب ما روي عن علي(ع) أنه قال: (لا تُعلِّموا نساءَكم سورة يوسف ولا تُقرئوهن إياها، فإنَّ فيها الفتن، وعلِّموهن سورةَ النور فإنَّ فيها المواعظ).. ولي ملاحظات على ذلك:
1ـ الروايات في الباب ضعيفة أو منقطعة السند، ولا يُعوّل عليها.
2ـ التعاليم الخاصة بالعفَّة، والعلاقة بين الجنسين، والأحكام الشرعية والآداب في سورة النور مشتركة للرجال والنساء، فلماذا التركيز على آيتين تخاطبان النساء (31 و 60) وإهمال كل التعاليم الشرعية والأخلاقية والآداب الموجّهة للرجال أيضاً؟
ــــ هذا جزء من التكوين الثقافي الخاطيء الذي نشكّله في وعي الإنسان المسلم، والذي يَنتج عنه تحميل المرأة المسؤولية في مثل بروز ظاهرة التحرش الجنسي.
ـــــ والحقيقة أن المسؤولية مشتركة، وهو ما تؤكد عليه نفس سورة النور.
ـــ ومثلما يسعى البعض لتحميل حوّاء ـــ وهي رمز المرأة ـــ مسؤولية (الخطيئة الأولى) حين أكل آدم من الشجرة بإغواءٍ وتحريضٍ منها، فإنّ القرآن جاء وخطّأ هذه الفكرة وحمّل الطرفين المسؤولية معاً، بل وجعل آدم هو المحرّك والمسؤول الأكبر عما جرى: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى، فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طه:120ـ121].
3ـ هل بعض سور القرآن ذكورية وبعضها أنثوية مثلاً كي نقول علّموا هذه السورة للذكور وتلك للإناث؟ وهل المطلوب من الفتاة أن تغلق منافذ التفكير عندما تقرأ سورة يوسف وتعود لتفتحها عند تلاوة باقي السور؟ هذا غير ممكن.
ـــ أم أن المطلوب منها أن لا تقرأ هذه السورة نهائياً، فيكون عندنا مصحف غلافه باللون الوردي مثلاً ويكون خاصاً بالنساء، وآخر غلافه بالأزرق وهو خاص بالذكور؟
4ـ ثم إنَّ في جانبٍ من سورة يوسف بياناً لسوء عاقبة المرأة التي كادت له، وكيف افتُضِح أمرُها وأصبحت مُهانة أمام الملِك، فهل هذا تعليم للفتنة أم خلاف ذلك؟ وهل في القرآن ما يُعلّم الفتنة؟
5ـ وأعتقد أنَّ أصل الفكرة مقولة للخليفة عمر بن الخطاب الذي كَتب إلى أهل الكوفة ــــ كما جاء في أكثر من مصدر كتفسير القرطبي والسيوطي وغيرهما ـــ فقال: (عَلِّموا نساءَكم سورةَ النور).
ــــ ثم دخلت هذه المقولة في الموروث الشيعي أيضاً ــــ مع بعض الإضافات ــــ باعتبارها حديث مروي عن الإمام علي (ع)، كما دخلَت مرويات وأحكام شرعية بل وآراء لمفسرين من مدرسة أهل السنة على أنها روايات أهل النبي (ص) وأهل بيته (ع). والأمثلة على ذلك عديدة، ومن بينها:
ـــ في كتاب (أخبار النساء لابن الجوزي) وكتاب (الآداب الشرعية للمقدسي الحنبلي) عن الخليفة عمر بن الخطاب أنه قال: (استعيذوا بالله من شرار النّساء، وكونوا من خيارهنّ على حذر).
ـــ هذه المقولة تحوّلت بقدرة قادر إلى رواية عن الإمام الصادق (ع) يرويها الكليني كالتالي: (استعيذوا بالله من شرار نسائكم، وكونوا من خيارهن على حذر)! ودخلت في الموروث الشيعي.
ـــ ومن قبيل ما رواه الحاكم والطبراني والبيهقي وآخرون أن الخليفة عمر خطب إلى علي (ع) أم كلثوم (فاعتلَّ عليه بصغرها فقال له: لم أكن أريد الباه، ولكني سمعت رسول الله يقول: كلُّ سببٍ ونسبٍ ينقطع يوم القيامة ما خلا سببي ونسبي). ومرة أخرى تتحوّل كلماته إلى رواية لعلي (ع)!
ـــ وقد تحدثت في كتابي (ميثولوجيا الخضر) عن جانب من هذا الموضوع.
ـــ ابتعدنا قليلاً عن أصل الموضوع، ولكن كان من المهم أن أبيِّن أنَّنا كما نسعى إلى بيان الأحكام الشرعية والعناوين الأخلاقية عند معالجة موضوع خطير وحساس كموضوع التحرش الجنسي، فإننا بحاجة إلى إصلاح وعينا للمفاهيم، ورؤيتنا إلى الأمور.. وستكون لنا وقفة أخرى نكمل بها حديثنا.