خطبة الجمعة 28 صفر 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: قصة سليمان (ع) بين القرآن والعهد القديم

ــــ بعد أن عرض الله تعالى شبهة المشركين بحق النبي والقرآن، واعتبر أنّ ما قالوه ظلم، لأنه اتّهام كاذب، وأنهم قد سعوا لأن تكون كذبتهم مُحكَمة ومحسَّنة بحيث تشتبه بالصدق، وهذا معنى (وَزُورًا)، قال سبحانه: (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا).
ـــ أي تدبَّروا في هذا الذي زعمتموه إفكاً أو أساطير الأولين، ليظهر لكم اشتماله على الحقائق الناصعة التي لا يحيط بها إلا الله الذي يعلم السر. وفي هذا:
أ ـ تعريض بكتب اليهود والنصارى وقصص القصّاصين باعتبار أنها تشتمل على أباطيل واختلاقات وتحريفات.
ب ــ وأن في القرآن أموراً لم تُذكَر في كتبهم، وأمور خفيت على القصاصين، كقصة صالح وهود.
ـــ ولو كانت هذه هي مصادر القرآن لانسجمت معها وشابهتها.. بينما المقارنة تؤكد خلاف ذلك:
1ـ الاختلاف في الأسلوب: فأول ما يُلاحظ في أسلوب القصة فيما بيد الناس من العهد القديم هو الركاكة، وهبوط المستوى الذي يصل أحياناً إلى درجة الإسفاف. فكيف يكون هذا من ذاك؟
(فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ. وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ... وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ»... وَقَالَ اللهُ: «لِتُنْبِتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلاً يُبْزِرُ بِزْرًا، وَشَجَرًا ذَا ثَمَرٍ يَعْمَلُ ثَمَرًا كَجِنْسِهِ، بِزْرُهُ فِيهِ عَلَى الأَرْضِ» وَكَانَ كَذلِكَ.... وَقَالَ اللهُ: «لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ، وَتَكُونَ لآيَاتٍ وَأَوْقَاتٍ وَأَيَّامٍ وَسِنِينٍ. وَتَكُونَ أَنْوَارًا فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتُنِيرَ عَلَى الأَرْضِ». وَكَانَ كَذلِكَ) سفر التكوين، الإصحاح1:1-14 مع الاختصار.
ـــ ولاحظ أسلوب القرآن ولغته: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت:2-9] فكيف يكون هذا من ذلك؟
2ـ من حيث مضمون القصص، والمفاهيم المنتزعة منها، والقيم والمباديء والأخلاقيات التي يطرحها القرآن ولا تجدها هناك.
ــــ فلو أخذنا مفردة قصة سليمان (ع) ما بين العهد القديم والقرآن الكريم، سنجد ما يلي:
1ـــ في الوقت الذي يقدّمه العهد القديم على أنه مَلِك حكيم يتحدث القرآن عن أنه نبي يوحى إليه: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)[النساء:163].
2ـ وعندما نقارن قصته مع ملكة سبأ نجد في سفر الملوك الأول: الإصحاح الأول (13-1): (وَسَمِعَتْ مَلِكَةُ سَبَا بِخَبَرِ سُلَيْمَانَ لِمَجْدِ الرَّبِّ، فَأَتَتْ لِتَمْتَحِنَهُ بِمَسَائِلَ). ثم يحكي النص كيف أُعجبت بحكمته وبعظيم ملكه وعن الهدايا الرائعة والكثيرة التي أهدتها له. وينتهي المشهد بصورة مادية بحتة، فلا إيمان ولا تسليم لله: (وَأَعْطَى الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ لِمَلِكَةِ سَبَا كُلَّ مُشْتَهَاهَا الَّذِي طَلَبَتْ، عَدَا مَا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ حَسَبَ كَرَمِ الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ. فَانْصَرَفَتْ وَذَهَبَتْ إِلَى أَرْضِهَا هِيَ وَعَبِيدُهَا).
ـــ وأما في سورة سبأ فالتفاصيل مختلفة تماماً ومما جاء فيها: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ، إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).
ـــ ثم ذكرت الآيات كيف استشارت قومها، وكيف حاولت أن ترشي سليمان بالهدايا الثمينة: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ).
ــــ وتصف الآيات كيف جُلب له عرشُها: (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).
ــ وتستمر الآيات في بيان القصة وكيف وفدت الملكة على سليمان: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ــــ ولنلاحظ هنا كيف انتهت القصة بمشهد إيماني هو الأهم.. حيث تحققت الغاية من رسالة النبي سليمان إليها، فما علاقة هذا بذاك؟
3ـ وتُختتم قصة سليمان هناك باتهامه بعبادة الأصنام: (وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى... فَذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَرَاءَ عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ) ثم يتحدث عن بنائه المعابد للأوثان إرضاء لنسائه الوثنيات ثم يقول: (فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَى سُلَيْمَانَ).
ــــ أما في القرآن فالصورة مختلفة تماماً: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) [البقرة:102]. (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.... وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص:30-40]. هذه هي نهاية سليمان في القرآن.. العبد الصالح الذي كان يُكثر من الذكر والتسبيح لله.. فكيف يكون هذا من ذاك؟
ـــ وما ينطبق على قصة سليمان ينطبق على باقي قصص الكتاب المقدس عندما نقارن مضامينها بما جاء في القرآن الكريم، مما يؤكّد بطلان التهمة القديمة المتجدِّدة التي يطرحها البعض بأن النبي (ص) صاغ القرآن مما أخذه من أحبار ورهبان أهل الكتاب.
ــ لقد كان القرآن الكريم واضحاً في التأكيد على أنّ ما فيه من قصص الأنبياء والماضين هو من وحي الله الذي لم يعهدوه من قبل: (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا)، وبإمكان الباحث المنصف والمتجرِّد أن يصل إلى حقيقة أنّ ما ادُّعي من أنَّ (الكتاب المقدس) هو مصدر ما في القرآن ليس سوى كلام باطل أطلقته قريش وتورّطت به، وعاد المستشرقون ليجترّوا تلك الأباطيل، وتلقّف الملاحدةُ وأشباهُهم تلك الترّهات، وأطلقوا حملتهم المسعورة على كتاب الله ونبيّه، ووقع في شراكِهم شبابٌ ـــ وللأسف ـــ لا يملكون أدنى مقوّمات المعرفة اللغوية والتاريخية والفكرية، فإذا بهم يثيرون إشكالاً هنا وسخريّةً هناك، الأمر الذي يحمّلنا مسؤولية أن نثير أمامهم الحقائق، وأن نبيّن مكامن عظمة الكتاب الكريم، لا بالأسلوب الإنشائي والطريقة الشعاراتية، بل بمعالجة القضايا المختلفة معالجَةً منطقيّةً وعلميةً، وبلغةٍ عصرية تخترق القلوب وتنفتح عليها العقول.