خطبة الجمعة 14 صفر 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: نظرة على مشروع تحصين


ــــ هناك مستويات من التغيير يمكن تحقيقها على مستوى تغيير قناعات الناس ومشاعرهم، ولكنَّ الأمر يحتاج إلى عمل ومبادرة. ومن صور المبادرات قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34].هذا إنجاز ومستوى من النجاح.
ــــ ألمانيا في الحرب العالمية الثانية كانت في حالة حرب وعداء مع الولايات المتحدة، والمفاهيم والمواقف والمشاعر لدى غالبية الألمان ــــ بالتأثير النازي ــــ كانت عنيفة جداً ضد المعسكر الآخر.
ــــ فكيف تبدّلت هذه الحالة بعد خمس عشرة سنة من انتهاء الحرب فقط، بحيث صار غالبية الألمان ولاسيما في ألمانيا الغربية ينظرون إلى أمريكا وكأنها «الجنة»؟
ــــ هناك مقال مثير تحت عنوان (كيف نهضَت ألمانيا بعد الحرب؟) يتحدث فيه كاتبُه عن الخطوات التي تمّ اتخاذها في هذا الطريق، من قبيل مشروع مارشال لانتشال اقتصاد أوروبا ـــــ وألمانيا الغربية على وجه الخصوص ــــــ ومشروع جلب العمالة الأجنبية، وغير ذلك.
ـــ ومن بين هذه الخطوات ما عَنْوَنَه الكاتب كالتالي: (إعادة برمجة «الألمان»).
ــــ قال في البداية: (أمريكا لم تعتمد على الاقتصاد فقط، فقد سخّرت كُلَّ قدراتِها العلمية والاستخباراتية لتحويل ألمانيا إلى صديق وحليف في وسط أوروبا، فمن ذا الذي كان سيُصدق أن الألمان سيُصبحون أصدقاءً لأمريكا بعد أن قامت بقصفهم قصفاً شنيعاً لدرجة أن مدينة كولن لم يبق منها إلا ثلثها، وفي هامبورغ دُمّر 300 ألف منزل، أما مدينة دريزدن فإن بعض الدراسات تُقارنها أحيانا بهيروشيما. المهم أنه بعد كُل هذا فإنَّ الكثير من الألمان يَعتبرون ما فعلته أمريكا تحريراً لهم.... فكيف نجحت أمريكا في تغيير نظرة الألمان نحوها؟).
ــــ ثم تحدّث عن طبيعة الخطوات الإجرائية لتحقيق إعادة البرمجة هذه.
ـــ قال: (بعد الحرب كانت أمريكا تؤمن بأنَّ «كُلَّ ألماني كان نازياً»). وبالتالي فهي لم تدفن رأسها في الرمال وتنكر الحقيقة الماثلة أمامها وتنكر وجود الكراهية العميقة والشديدة.. بل أقرّت بوجود المشكلة، بل وبالغت نسبياً في وجودها بافتراض أن الكل يحمل الأفكار والمشاعر النازية.
ـــ هذه هي الخطوة الأولى الصحيحة والمطلوبة في معالجة أية مشكلة ورفع أي خلل.
ـــ وتم عنونة المشروع كالتالي: (الاستراتيجية النفسيّة من أجل ألمانيا)، وانخرطت فيه السي آي إيه، وخبراء ألمان، وهوليوود، ووسائل الإعلام الألمانية الجديدة، وبالأخص المجلات العلمية، والنقابات العمالية والصناعية، والنوادي الثقافية والفنية، وأطراف أخرى.
ــــ ثم قال: (إحدى أعجب الوسائل التي استُخدمت كانت إجبار الألمان على زيارة معسكرات الاعتقال النازية «غصباً عنهم»، كما حصل في مدينة «فايمر»، حيث تمَّ إجبار كُلِّ سكان المدينة رجالاً ونساءً على التجوّل بين الجثث المتعفنة ومُعاينتها كي يعتبروا، ومع أن المشاهد كانت صعبة جداً على النفس إلا أن الأمريكان كانوا يعتقدون بأن هذه إحدى أقوى الوسائل لـ «تربية» الألمان).
ــــ والوسيلة الأخرى: (بدأت أمريكا حملة إعلامية ضخمة... بدأت بأفلام تتحدث عن فظائع الألمان ومحاكمات قيادات النازية، ولكن الخبراء في ألمانيا بدؤوا يقترحون أفلاماً مع محتويات إيجابية تعلّم الألمان «التسامح والأخوة» التي كانت تهدف لإتاحة الفرصة للألمان للانخراط من جديد فيما يُسمى «منظومة القيم الغربية الديمقراطية»).
ـــ وهكذا تم إنفاق مبالغ هائلة، ضمن خطّة عمل مدروسة وُضعت على أسس علمية، وتم تنفيذ المشروع على قدم وساق، إلى أن تحقق النجاح ـــ بعد خمس عشرة سنة ــــ ببلوغ ذروة التوقّعات.
ــــ إذاً مسألة تغيير القناعات والمشاعر إلى مستوىً ما أمر ممكن، مهما كانت حادة وعنيفة.
ــــ في شهر يوليو من هذا العام، أعلنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الكويت عن إطلاق مشروع باسم «تحصين»، وذلك لتعزيز الوسطية، وبمشاركة خمسِ جهاتٍ حكومية هي وزارات الشباب، والتربية والتعليم العالي، والإعلام، والشؤون، والداخلية.
ــــ ثم أُعلن ـــ خلال هذا الأسبوع ــــ عن البدء بتنفيذ المشروع الذي: (يستهدف تزويد طلبة الصف الثاني عشر، وطلبة المعاهد والجامعات، بمهارات علمية في مجال نشر وتعزيز الوسطية ومواجهة الانحراف الفكري والسلوكي). كلام جميل جداً.. ولكن أود أن أسجِّل هنا عدة ملاحظات:
1ـ وقعت الوزارة في خطأ كبير بتصريحِها ــــ ضمن الإعلان عن إطلاق المشروع ــــ بأنَّ: (الكويت لا تعاني مِن أيِّ تطرف، وهذا المشروع يأتي لتحصين الشباب من أي فكر متطرف قد يتسلَّل
إليهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتاحة للجميع).
ــــ لا أرى أيَّ داعٍ لإنكار وجود خللٍ ما في المجتمع. كل المجتمعات في العالم تعاني من مشاكل وسلبيات، والكويت ليست مستثناة منذ ذلك، بل ولا عيب في وجود الخلل، بل العيب في إهماله.
ـــــ هناك تطرّف في الكويت.. أنْ نختلف على النسبة هذا أمر آخر، ولكن أن ننكر وجود التطرّف فهذا أوّل خطأ علمي لمعالجة أية سلبية.. ولنسترجع ما ذكرتُه قبل قليل كيف افترض الأمريكان أن كل الألمان نازيون، وهذه مبالغة متعمَّدة، ثم وضعوا خطة المعالجة ونجحوا فيها.
ــــ وإلا كيف نفسِّر الخلايا الإرهابية التي تم القبض عليها، والخطط الإجرامية التي وُجِدت بحوزتها، وتفجير مسجد الإمام الصادق (ع)، ومقاطع الفيديو التي يظهر فيها بعض الكويتيين ممّن يهدّدون بالذبح، أو يتحدّثون بلغة إقصائية عنيفة، والقضايا المطروحة في المحاكم، والأمثلة كثيرة جداً.
2ـ نحن بحاجة إلى تعريف التطرّف والغلو.. هذه مسألة مهمة جداً.. ذكرت أكثر من مرّة أنّ أغلب المشاريع تصبّ في اتجاه الفكر المعادي للدولة ومؤسساتها الرسمية، وهذا جزء من المشكلة لا كلّها.
ــــ هناك تطرّف تجاه الآخر المختلف دينياً.. ومذهبياً.. وقومياً.. ووطنياً.. وقبلياً.. والخطاب الديني المصنَّع محلياً ـــ أحياناً ـــ يُغذّي هذا التطرّف، ولا أخصّ طرفاً معيّناً، فالتطرّف يجلب تطرّفاً مقابلاً.
ــــ القائمون على مشروع «تحصين» يقولون أنه ستُقام مائتا حلقة نقاشية وورش حوارية تستهدف 10 آلاف طالب وطالبة .. جميل جداً.. ولكن هل بين المحاورين علماء دين كويتيين شيعة؟ هل تم إدخال مجموعة منهم في برمجة المشروع؟ هل سيقوم بعضهم بالمشاركة في تنفيذ المشروع بصورة مشتركة مع علماء من أهل السنة، بحضور الطرفين معاً في جو ودّي وبروحيّة وطنية وإنسانية؟
ـــ أنا لا أملك إجابة، ولا توجد أية إشارات في التصريحات التي تم الإدلاء بها بحيث تشير إلى أن الإجابة ستكون بنعم.. ونعم كبيرة وواضحة كعين الشمس.. أتمنّى مِن كل قلبي أن أكون مخطئاً.
ــــ فإن كانت الإجابة بلا، فهذا يعني أن المشروع لا يعالِج إلا جانباً من المشكلة، ومعالجة جانب منها سيؤدّي إلى بروز الخلل في الاتجاهين من جديد، لأننا إذا نزعنا التطرف تجاه الحكومة فقط، ثم صدر عمل إرهابي ضدّ مكوّنٍ ما، ثم اتخذت الحكومة إجراءاتها الأمنية ضد تلك الجماعة
المتطرفة، فسيعود الموقف المتطرّف ضد الحكم من جديد.. أعتقد الأمر شديد الوضوح.
ــــ هل هناك تردّد في الاعتراف بوجود شركاء في الوطن لا ينتمون إلى مذهب معيّن؟ أم هناك تخوّف من الاعتراف بوجود علماء دين شيعة أكفَاء قادرين على تحقيق الشراكة الوطنية؟
ـــ قد يقال هناك أكاديميون ومعلِّمون شيعة.. هذا لا يكفي.. لأن الخطاب الديني أقوى من أي خطاب آخر.. ولذا من المهم إشراك علماء البلد أيضاً، ليس فقط في الإعداد بل في التنفيذ أيضاً.
3ـ وزارة التربية مشارِكة في مشروع «تحصين».. وما زالت هناك مكابَرة وإصرار على خلو مناهجها من الغلو والتطرف.
ــــ ولكن في آخر قراءة شاملة لي لكتب التربية الإسلامية المقررة حالياً، هناك موارد كثيرة ما زالت موجودة، ليس فقط ضد شركاء الوطن، بل ضد الحكم والمسؤولين ومجلي الأمة أيضاً، وأضيفها إلى تلك التي تحدّثت عنها مسبقاً في أكثر من مناسبة، ولم تتغيّر إلا بصورة طفيفة وتجميلية ضمن التعديلات. ولربما خصصتُ خطبة الأسبوع المقبل للحديث حول هذا الأمر.
ــــ وبالتالي كيف تستطيع أن تنجح وزارة التربية في مساهمتها في مشروع «تحصين» المهم والحسّاس وفي كتبها الدراسية تحريض إلى درجة الحكم بكفر وقتل المستهزيء باللحية لأنه يعتبر مرتدّاً!!
ــــ إننا في الكويت كما في كل الدول العربية والإسلامية بحاجة إلى مشاريع من قبيل مشروع «تحصين» الذي يهدف إلى تزويد الشباب بمهارات علمية في مجال نشر وتعزيز الوسطية ومواجهة الانحراف الفكري والسلوكي والتطرّف، ليس من باب الوقاية فحسب، بل والمعالجة أيضاً لسلبيات موجودة فعلاً، وهي بحاجة إلى اعترافٍ منّا أوّلاً بوجودها، ومن ثَمَّ أن نقوم بدراسة سبل معالجتها والوقاية منها على أسس علمية. وعلى القائمين على هكذا مشاريع أن ينفتحوا أوّلاً على كل مكوِّنات الوطن الواحد وإشراكِهم في هذه العملية بجدِّيّة وشمولية وبروح وطنية بعيدة عن روحية الإقصاء، فالتطرّف الذي يعيشه بعضُ شبابِ وطننا ليس تطرّفاً ضد الحكم فحسب، بل هو تطرّف ضد الآخرِ الشريكِ معهم في الوطن وفي المدرسة وفي الجامعة وفي كل مواقع الحياة.. اللهم اجعل هذا البلد آمناً وسائر بلاد المسلمين.