خطبة الجمعة 7 صفَر 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: دم .. لفطير صهيون


(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ، لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ) [آل عمران ـــ110-112].
ــــ يعيش اليهود ـــ كشعب ـــ عبر التاريخ حالة من العقدة المتأصّلة بسبب:
1ـ الجرائم الكثيرة التي قاموا بها.
2ـ والنفس الخبيثة التي لا تتورّع عن إلحاق الأذى بالأغيار (الجوئيم) وبأبشع الصور.
ـــ أمامَنا رواية (تاجر البندقية) للأديب الإنجليزي (وليم شكسبير) حيث يطالب المرابي اليهودي برطل من لحم المَدين لتعثّره في سداد دينه.
ـــ ورواية (دم لفطير صهيون) للروائي المصري نجيب الكيلاني والتي تحكي حادثة قتل (الأب
توما) على يد اليهود في إحدى حارات دمشق القديمة على عهد محمد علي باشا، وذلك تلبيةً لطقس يهودي يتطلّب مزج دم قتيل من الأغيار بفطير يأكلونه في يوم عيد لهم.
ـــ هاتان الروايتان اللتان جاءتا في زمنين متغايرين، ومِن قِبَل أديبين ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين، وإلى شعبين متباينين، تعكسان صورة اليهود لدى الأمم التي تعاملت معهم بشكل مباشر، وذاقت الأمرّين من نفسيتهم المعقّدة وانعكاسات تلك النفسيّة.. الانعكاسات التي قدّمتها الآية الشريفة كالتالي: (ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ).
ــــ وقد بيّنت الآية الشريفة ـــ وبوضوح ــــ الحالة النفسية التي باتت تلازم اليهود أينما كانوا بسبب ذلك العصيان والعدوان المنطلِق من النفسية المعقّدة بقوله تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) وفي قوله تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ).
ــــ و(ضُرِبَتْ) تعني أن هذه الحالة من الذِّلّة والهوان والشعور بالهزيمة النفسية باتت هي حالتهم الأصيلة أينما وُجِدوا.. صارت مصيرَهم المحتوم.. أُثبتت عليهم.. وشملتهم.
ـــ واستثنت الآية حالة يستطيع من خلالها اليهود الخروج من وضعية المهانة والذل: (إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ).
ــــ إما أن يرضى عنهم الله فيوفّقهم للخروج من هذه الحالة، وهذا لن يحصل.. لماذا؟ الآية بنفسها تجيب: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ).
ـــ وإما أن يقوم الناسُ بتهيئة الظروف لهم، فيُسهّلون لهم بالتالي مهمّة الخروج من حالة الذل والهوان.. وحينها سيقفز اليهود إلى المواقع التي تركها الآخرون، أو سهّلوا لهم أمر السيطرة عليها، فيستعيدون شيئاً من القوة التي سيوظّفونها من جديد في الإفساد في الأرض.
ـــ إذاً نحن الذين نفتح لهم الطريق كي يُعربدوا كما شاءوا... ولو تحمّلنا مسؤولياتِنا كما ينبغي لأعدناهم إلى وضعهم الأصلي وصورتهم الحقيقية.. صورة المهانة والذل.
ـــ ومن هنا نفهم موقعية الآية الأولى مما تلوت: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
ـــ أيها المسلمون! يقول الله تبارك وتعالى لكم: إذا تحمّلتم هذه المسؤوليات أصبحتم أعزّة وأرجعتم اليهود إلى وضعهم الأصلي.. وضعِ الذل والمهانة. وأما إذا مددتم لهم حبل النجاة.. إذا مكّنتموهم من هذا الحبل.. إذا تراجعتم عن إيمانكم بالله وعن قول الحق وعن مسؤولياتكم تجاه باطلهم، فسيعودون إلى طغيانهم وظلمهم وإفسادهم في الأرض.
ــــ لماذا تخافون منهم؟ هل تخافون أن يُمحوكم عن الوجود؟ إنهم (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى).. هم لا يملكون أسباب محوِكم من الوجود.. كل ما يملكونه هو إثارة المشاكل.
ــــ بل وحتى لو وصل الأمر إلى حد الصراع الميداني العسكري (وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ).. فما هي المعادلة إن صمدتم في وجههم؟ (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ).
ــــ وهذا ما ثبت عملياً في عدوان 2006 على لبنان... وكلنا يتذكّر مشهدَ هروب المقاتلين الصهاينة وعويلِهم، واصطيادَ دباباتِهم الأسطورية وتدميرها، وسقوطَ قوّاتِ النخبة لديهم في الكمائن التي نُصِبت لهم.
ـــ إذاً، يقول لنا الله سبحانه: الأمر بأيديكم.. هم أذلّاء خاسئون يعيشون الهزيمة النفسية، ولكن أنتم الذين تقرِّرون مصيرَكم أمامَهم.. هل تعطونهم أسباب القوة وتُسلِمون إليهم رقابَكم، أم لا.
ــــ قبل أيام تجلّى هذا المشهد واضحاً في مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي الذي عُقِد في روسيا.
ــــ فبعدَ الكلمة التي ألقاها رئيس مجلس الأمة الكويتي وضمّنها الموقف الشعبي والرسمي لدولة الكويت من الكيان الصهيوني وجرائمه، ومن احتلال فلسطين.. (إنها فلسطين) والكلمات له (ليس غيرها.. فلسطينُ الأرضُ العتيقة، فلسطينُ أرض الديانات والأنبياء، فلسطينُ الجرحُ المفتوح، القاتلُ والمقتول، هناك تتجسد كلمة احتلال). بعد هذه الكلمة التي تضمّنت العديدَ من صور الجرائم الصهيونية، وما أعقب ذلك من ردِّ وفد الكنيست الإسرائيلي عليها، جاءت اللحظة الفارقة.. وضِمن مداخلةٍ لم تتجاوز خمساً وأربعين ثانية.. خمسٌ وأربعون ثانية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. خمسٌ وأربعون ثانية مِن كلمةِ حقٍّ كانت كفيلة بأن تُسقِطَ عن الصهاينة كلَّ الخُيلاءِ والغطرسةِ التي يعيشونها.. وما تمتّعوا بها إلا بحبلٍ منّا.. بتنازلاتنا.. بِصَمتِنا.. بمواقفنا المتخاذلة. بلهاثِ البعضِ وراءَ السلامِ المزعومِ مع كيانٍ ذليلٍ في دخيلةِ نفسِه، كيانٍ لا يعرف وسيلةً لردعِه إلا لغةَ القوة.. كلمةٌ عرّتهم وأعادتهم إلى حجمِهم الحقيقي ووضْعهِم الأصلي.. ليحمِلوا حقائِبَهم مطرودين، أذلّةً صاغرين، وقد صدَحت قاعة المؤتمر بالتصفيق لهذا الموقف الكويتي الشجاع.. وطَرُبَ الناس على مواقع التواصل الاجتماعي بهذا النبأ.. وأصبح اسمُ رئيسِ مجلس الأمة الكويتي ثانيَ وَسمٍ أو هاشتاق في التويتر على مستوى العالم في ذلك اليوم، احتفاءً بموقفه.. مما يكشف عن أنَّ ضميرَ الشعوبِ العربيةِ والإسلاميةِ ما زالت نابضةً بالحياة في موقفِها من المحتلِّ الصهيوني، وأنَّ محاولاتِ التطبيع مع الكيان الغاصب مصيرُها الفشل المحتوم متى ما تحمّلت هذه الشعوب مسؤوليتَها في قولِ كلمةِ الحقِّ بشجاعة، وخاصّةً إذا تلاحم الموقفُ الرسميُّ مع الموقفِ الشعبيِّ مِن هذه القضية، كما تجلّى ذلك في الكويت من خلال برقيةِ الإشادة التي بعث بها أميرُ البلاد واستقبالِه الحافلِ لرئيس وأعضاء الوفدِ البرلماني، ليؤكّدا الموقفَ الكويتيَّ الصامدَ ضدَّ التطبيعِ مع الكيانِ الصهيوني، والذي يأتي نتيجةَ تمتّعِ الشعبِ بهامشٍ مِن الحرية والمشاركة في اتخاذِ القرارِ السياسي، مما يساعدُ على تقاربِ موقفِه من هذه القضية مع الموقف الرسمي، وعلى استقواء الموقفِ الحكوميِّ بالموقفِ الشعبيِّ في المحافل الدولية. ومِن حقّنا أن نتساءلَ هنا عن سرِّ الهجمةِ المفاجئة التي واجهها رئيسُ مجلسِ الأمة فوراً بعد عودته من ذلك المؤتمر مِن قِبل بعضِ الأطراف الداخلية، وأنا لستُ معنيّاً بالدفاعِ عن شخصِه، وإنما مِن حقِّنا أن نتساءل عن سرّ التوقيت، وما وراء الأكَمة.