خطبة الجمعة 30 محرم 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: المُسكِرات.. عنوان المهانة


ــــ في الأساس لا يحتاج الإنسان إلى تشريع كي يمتنع عن تناول المُسكِرات، فالذين رأوا تأثير المسكرات على متناوليها احترموا شخصيّاتِهم وعقولَهم، وامتنعوا عنها تلقائياً وبلا تشريع.. وهكذا بالنسبة إلى الذين جرّبوها وندِموا لِما صدر عنهم أثناء ذهابِ عقولهم.
ــــ في الجاهلية ـــ كما روى صاحب السيرة الحلبية ـــ حرّم عبد اللّه بن جدعان القرشي (وكان من سادات قريش على عهده) على نفسه الخمر بعد أن كان مُغرماً بها، والسبب في ذلك أنه سكر ذات ليلة وصدرت عنه مجموعة من التصرّفات المشينة بشخصيّته، من بينها أنه مدّ يده نحو ضوء القمر ليمسكه، فضحك منه جلساؤه، ولما أفاق وعلم بما جرى، حلف أن لا يشربها أبداً.. لماذا؟ لأنه احترم شخصيتَه واحترم عقله.
ــــ وللصحابي الجليل المهاجر عثمان بن مظعون الذي لم يشرب الخمر في الجاهلية كلمة جميلة تلخّص الفكرة، قال: (لا أشرب شيئاً يذهِبُ عقلي، ويُضحِكُ بي مَن هو أدنى مِنّي، ويحملُني على أن أُنِكحَ كريمتي مَن لا أريد) ففاقد العقل يَصدر عنه ما لا يريد حين يكون في وعيه.
ــــ ومثل ابن مظعون كان الشهيد جعفر بن أبي طالب. في رواية عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: (أوحى اللّه تعالى إلى رسول اللّه(ص) إنّي أشكر لجعفر بن أبي طالب أربعَ خصال) هذه الخصال كانت منه قبل الإسلام (فدعاه النبيّ (ص) فأخبره) وبالتالي أحبّ أن يعرف تلك الخصال، فقال جعفر متواضعاً ومتجنّباً الرياء: (لولا أن اللّه تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتُك: ما شربتُ خمراً قط، لأنّي لو شربتها زال عقلي. وما كذبتُ قط، لأنّ الكذب يُنقص المروّة) أي يُسقط من شخصية الإنسان (وما زنيت قط، لأني خفت إذا عَملتُ عُمِل بي. وما عبَدتُ صنماً قط، لأني علِمتُ أنه لا يضر ولا ينفع. فضرب النبيّ (ص) على عاتقه وقال: حقٌّ للّه تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة) أي أن هذه البشارة كانت قبل أن يشترك في غزوة مؤتة ويستشهد. هكذا يكون الإنسان الذي يحترم شخصيتَه ويحترم أعظم شيء في تكوينه.. عقلَه.
ـــ ومثل هذه الشخصيات آخرون ذَكَرهم التاريخ كالشاعر النابغة الجعدي، وأمية بن أبي الصلت، وحرام جد جابر الأنصاري والذي لُقِّب بحرام لأنه حرّم الخمرة على نفسه، وقيس بن عاصم بن سنان، ومقيس بن صبابة السهمي، وكلهم حرّموا المسكرات على أنفسهم احتراماً لعقولهم.. إما بعد الوقوع في تجربة مريرة، أو من خلال تجارب الآخرين مِن حولهم.
ـــ ومع أنّ الأمر في الأساس لا يحتاج إلى تشريع ـــ كما ذكرت ـــ إلا أنّ كل الشرائع السماوية ـــ بحسب الرواية التالية ـــ حرّمت على أتباعها ذلك، فعن الصادق(ع): (ما بعث اللهُ نبياً قط إلا وقد عَلِمَ الله أنه إذا أكمل له دينَه كان فيه تحريم الخمر، ولم تزل الخمر حراماً).
ــــ وإذ كان عنوان الخمر يغلب على عهد النبي على المسكر المستخرج من العنب، فلربما حاول البعض أن يجد لنفسه ثغرة بشرب المسكر المصنوع من غير العنب، فقال النبي (ص) كما روى ذلك الشيخ الطوسي في الأمالي عن النعمان بن بشير أنه قال: (سمعت رسول الله (ص) يقول: أيها الناس! إنّ مِن العنب خمراً، وإن من الزبيب خمراً، وإنّ من التمر خمراً، وإنّ مِن الشعير
خمراً، ألا أيها الناس! أنهاكم عن كل مسكر).
ـــ ومع النهي اتخذ النبي (ص) إجراءً إضافياً ووقائياً، يتمثّل في نوع من المقاطعة الاجتماعية بهدف الرَّدع، ففي رواية عن الصادق(ع) أنه قال: (قال رسول الله (ص): مَن شرب الخمر بعد ما حرمّها الله على لساني، فليس بأهلٍ أن يُزوّج إذا خطب، ولا يُشفّع إذا شُفّع، ولا يُصدَّق إذا حَدّث، ولا يؤتمَن على أمانة، فمن ائتمنه بعد علمه فليس للذي ائتمنه على الله ضمان، وليس له أجر، ولا خُلْف) أي من خالف ذلك وخسر ماله فلا يتوقّع من الله الثواب وأن يُبدِله عمّا خسر.
ـــ وفي رواية أن الصادق سأل أباه الباقر (ع) عن السبب في ذلك فقال: (لأن الله عزّ وجلّ يقول: [وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا]) {النساء:5} (فهل تعرف سفيهاً أسفه مِن شارب الخمر؟ قال: ثم قال: لا يزال العبد في فُسحةٍ مِن الله حتى يشرب الخمر، فإذا شرِبَها خرق الله عنه سرباله) كناية عن الستر، فيفضح نفسه أو لا يكون صاحب حياء وعفة وحشمة (وكان وليُّه وأخوه إبليس، وسمعُه وبصرُه ويدُه ورجلُه، يسوقه إلى كل شر، ويصرفه عن كل خير).
ـــــ وفي رواية أخرى عن النبي (ص): (شاربُ الخمر لا يُعاد إذا مرِض، ولا يُشهد له جنازة).
ــــ وفي ثالثة عن الصادق(ع) أن زنديقاً قال له: (لِمَ حرم الله الخمر، ولا لذة أفضل منها؟ قال: حرَّمها لأنها أم الخبائث، ورأسُ كلِّ شرّ، يأتي على شاربها ساعة يُسلبُ لُبُّه، فلا يعرف ربَّه، ولا يترك معصيةً إلا ركِبَها، ولا يترك حُرمةً إلا انتهكها، ولا رحِماً ماسّة إلاّ قطعها، ولا فاحشة إلا أتاها. والسكران زِمامُه بيدِ الشيطان، إنْ أمَره أنْ يسجد للأوثان سجد، وينقاد حيثما قاده).
ــــ في الختام رسالة أوجّهها إلى شبابِنا الأعزاء لا سيّما الذين ينفتحون على تجربة السفر إلى بلادٍ لا يُمنَع فيها بيع المُسكِرات.. سواء بغرض الدراسة أو السياحة.. وإلى أولياء أمورهم أيضاً: العقلُ هو أكرم وأعظم شيء في الإنسان.. وبه امتاز الإنسان عن البهائم.. وبالمسكِرات من أنواع الخمور والمخدِّرات وحبوب الهلوسة وأمثالِها يتنازل الإنسان عن قيمتِه وشخصيتِه وكرامتِه، ويعرّضُ نفسَه إلى المهانة والذلّة لينحطّ بذلك إلى ما دون مستوى البهيمة. انظروا حولَكم كيف تتدمّر الأسر بسبب إدمان رب الأسرة على المُسكِر.. كيف يعيش الأب المدمن لحظات الذلّ وهو يبكي ندماً لأنّه يرى نفسَه عاجزاً أمام وضع أسرته المزري.. وحقدِ أبنائه عليه.. وكراهية زوجتِه له.. ولربما جرّه ذلك للاعتداء عليهم ضرباً وإهانة.. حتى إذا أفاق عضّ أصابع الندم على ذلك.
أولياءُ الأمور أمامَهم مسؤولية مهمّة بأن ينتبهوا إلى أجواء الصداقة التي تحيط بأبنائهم في تلك البلاد.. لا يكفي أنْ ترعى ابنَك مادياً بتوفير المسكن الملائم.. كما لا يكفي أن تتابع تقدّمه الدراسي، وإن كان ذلك هو الأساس في تغرّبه.. بل احرص أيضاً على أن تجد له الرفقة الطيّبة التي تذكّره بصلاته.. وبعلاقته بربّه وهو في زحمة الانشغال في دراسته.. فإنّ الأصدقاء والأجواء المحيطة بالشباب هي العامل الأقوى والأكثر تأثيراً في سلوكياتِهم وفي رسم معالم شخصيّاتهم.