خطبة الجمعة 23 محرم 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لكي لا ينسانا الله

ـــ في القرآن الكريم حديث متكرر عن النسيان، وعن نتائج وتبعات وعقوبات الذين يَنسون العهد مع الله.. بدأ مع آدم (ع)، ومرَّ بعدة أقوام، محذّراً المسلمين من تكرار التجربة.
ــــ وعندما نتحدث عن النسيان الوارد في الآيات القرآنية، فليس المراد منه دائماً (عدم التذكّر)، بل استُعمل هذا اللفظ أحياناً مجازاً للدلالة على الإهمال وعدم المراعاة والتراخي، فالذي تناول المفطر ــــ مثلاً ــــ وهو ناسٍ أنه على صيام لا يؤاخَذ تكليفاً فليس بمرتكب حرام، ولا وضعاً، فصومه صحيح أيضاً.
ـــ وفي وسائل الشيعة عن الصادق(ع) عن رسول(ص) قوله: (رُفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطُرّوا إليه، والحسد) ولعل المراد منه المشاعر دون ما يُترجَم إلى قول أو فعل ولنلاحظ نهاية الحديث ففيه دلالة على ذلك، وهذا لا يعني التشجيع عليه أو عدم تأثيره السلبي على النفس بحيث يفسح الإنسان لنفسه أن يحسد بهذه الحدود، كل ما في الأمر أن النبي يبيّن رحمة الله، وهكذا بالنسبة إلى العنوانين التاليين (والطِّيَرة، والتفكر في الوسوسة في الخلوة، ما لم ينطقوا بِشِفَة) فإذا ترتّب الأثر الخارجي حوسب الإنسان.
ــــ من نماذج الحديث القرآني عن النسيان ــــ أي الإهمال وعدم المراعاة والتراخي ــــ ما جاء في سورة طه 115-132 وبدأت بقصة آدم: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).
ـــ لنلاحظ أوّلاً كي نفهم معنى النسيان هنا، فإبليس عندما أراد إغواء آدم ذكّره بكلام الله: (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف:20-21] أي أن آدم لم يكن ناسياً بمعنى عدم تذكّر التحذير الإلهي، بل أهمل الأمر الإلهي ولم يراعِه، وصدّق القسَم الذي جاء به إبليس.
ــــ الإنسان كفرد، والبشر كجماعة، لديهم القابلية لأن يصدر عنهم الإهمال والتراخي وعدم المراعاة، وهذه الحالة خطيرة حذَّر منها القرآن عدة مرات وضرب عليها الأمثلة.
ــــ في سورة الأنبياء:44 يبيّن الله خطورة الاستسلام لهذا النوع من النسيان: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء) المشركين (وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) امتدّ بهم الزمان وترتّب على ذلك أنهم:
1ـ شعروا بالقوة.. قوة الصحة والعافية والمال والترف والرفاهية والامتداد بالذرية.
2ـ أهملوا حقيقة الموت المتربّص بهم
3ـ كفروا بالحياة الآخرة، وبالحساب والعقاب والثواب
ـــ أين ذهبت عقولهم؟ (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) أفلا يرون الناس يموتون من حولهم؟ أليس في هذا واعظ لهم كي ينتبهوا إلى مصائرهم، ويضعوا في حسبانهم احتمال البعث والحساب؟
ــــ (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) هل يتصوّرون أن بإمكانهم قهر الموت وتقدير الأمور كيف يشاؤون؟
ــــ هذه واحدة من مخاطر إهمال ذكر الله وذكر الموت والآخرة وأن هذه الحياة مؤقتة.. من مخاطر الاستغراق في هذه الحياة وشؤونها بالمستوى الذي يجد فيه الإنسان نفسه كحال أولئك المشركين، فيصبح كل تفكيره وهمّه وجهده لهذه الحياة، ليأتي يوم القيامة مفلساً.
ــــ هذا النموذج عبّر عنه القرآن بالصورة التالية: (نَسُواْ اللَّهَ) أي أهملوا ذِكر الله وأوامرَه ونواهيه (فَنَسِيَهُمْ) [التوبة:67] أي سيهملهم الله وسيسلب عنهم رحمتَه.
ــــ هذا الإهمال منهم أدّى إلى ما بدأت به نفس الآية السابقة [التوبة:67]: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ).. وهذا كله من نتائج هذا النسيان والإهمال والتراخي.
ـــ ثم يقدِّم الله في سورة طه ــــ بعد ذِكر قصة آدم ــــ العِبرة منها وذلك بتقديم القاعدة الضامنة للنجاة: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) واتباع الهدى يحتاج إلى التذكّر الدائم وهو بدوره يحتاج إلى أدوات:
1ـ حضورك في المساجد.. عن الإمام علي (ع): [مَن اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردُّه عن ردى، أو يسمع كلمة تدله على هدى، أو يترك ذنباً خشية أو حياء].
2ـ ذهابك إلى الحج والعمرة.
3ـ حضور الجنائز وزيارة المراقد والمقابر.
4ـ تلاوة كتاب الله والاستماع والإنصات إليه.
5ـ الدعاء.
6ـ الجلوس إلى إخوانك الذين يذكّرونك بالله وبالآخرة.. وأمثال ذلك..
ــــ وعندها (فَلا يَضِلُّ) هذا النموذج من الناس في الدنيا (وَلا يَشْقَى) في الآخرة.
ـــ وأما مخاطر ونتائج مخالفة هذه القاعدة وإهمال ذِكر الله فكالتالي:
1. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) في الحياة الدنيا. من طبيعة النفس البشرية أن لا تشبع، فهي في نَهَم مستمر.. للمال، للغريزة الجنسية، للجاه، للشهرة.. كل إنسان بحسبه.
ــــ وكل هذا يستتبع الحسد، والتفكير المنهِك، والقلق، والاكتئاب، وآلام المعدة والقولون والرأس. إلخ.
ــــ وإذا دخل في المجالات غير القانونية فمصيبة أخرى.. سجن وملاحقة وخوف، والقائمة تطول.
2. (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) إهمال الإنسان وتراخيه أوصله إلى هذه النتيجة، حيث سيهمله الله وسيسلب عنه رحمتَه في الآخرة.
3. (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ) وهذه من نتائج ذلك الإهمال الذي عاشه هذا النموذج في الدنيا:
أــــ الإسراف في المعاصي والاستغراق في الدنيا..
ب ـــ ثم عدم التأثّر بكل الدلائل المنبّهة له والتي كانت تسعى لفتح عينيه على الحقيقة.
ــ والله عادل حين يُهمله في الآخرة.
4ـ (وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى). تجارة خاسرة بكل المقاييس. من حيث النوع، ومن حيث الامتداد.
ـــ ثم تستدرك الآيات لتؤكّد حقيقة أن عوامل عدم الغفلة عن ذِكر الله والآخرة موجودة: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) والعقول.
ــــ والمطلوب منك أن تفتح عينيك، وأن تفكّر بشكل سليم، وتحسبها صح، تماماً كأي إنسان حاذق يريد دخول عالم التجارة حيث يأخذ بعين الاعتبار الجدوى الاقتصادية، والتكلفة، والأرباح، وغير ذلك.
5. من نتائج الإهمال والاستغراق في التلهّي عن ذكر الله والآخرة، سوء تفسيرهم لعدم المعاقبة العاجلة في الدنيا، وهذا بدوره سيساعد على المزيد من التراخي والإهمال: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا) أن نعذّبهم في الدنيا على ما يقترفون (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) فهناك نهاية للطريق، ثم يُبعَثون.. وكل ما يصدر عن الله من تأجيل عقوبة الاستئصال يصدر عن حكمة ولغرض.
ـــ وتكمل الآيات بعرض المطلوب من الإنسان المؤمن الذي يتطلّع إلى أن يذكرَه الله في الآخرة:
1ـ (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) والذي يعين الإنسان على الصبر أمور:
2ـ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) وهذا المزيج من الصبر والذكر اللساني قد يوصلك إلى الطمأنينة النفسية وبالتالي (لَعَلَّكَ تَرْضَى).
3ـ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) فمثل هذه المقارنات مُتعِبة وتزرع عدم الرضا بقضاء الله وتدفع إلى الحسد، والبخل، والكثير من الرذائل، ونتيجتها أن تجذبك إلى الدنيا وتجعلك تَغفل عن ذكر الله والآخرة.
4ـ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ): انهض بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووفّر حولك الأجواء الإيمانية.
5ـ (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ) حبّب الصلاة إلى نفسك، ولا تعتبرها مجرد تكليف تريد إسقاطه، أو أمراً يحتاج إليه الله، وحينها ستشعر بتأثير هذه الصلاة في حياتك إيجاباً وتجعلك من أصحاب النفوس المطمئنة.
6ـ (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) وهذا هو العامل الآخر الذي سيجعل الإنسان من المستحقّين لعناية الله ورحمته في الآخرة. فالتقوى صمّام الأمان الذي يُصلح مسيرة الإنسان كلما ضغطت الشهوات عليه، وكلّما زيّن له الشيطان المعاصي، وكلما أغرته الدنيا بزُخرُفِها وزِبرجِها.
ــــ إنَّ الله عندما يأمرُنا بأن نذكرَه، فالمطلوب أن نذكُره عن وعي وبصيرة، أن نذكرَه لكي نهتدي، أن نذكرَه لكي نُصلح أحوالَنا، أن نذكرَه لكي ترتقي أخلاقُنا، أن نذكرَه لكي نرفع منسوبَ التقوى في نفوسِنا، وهذا ما سيجعلنا مستحقِّين لذكره إيّانا في الآخرة، ولا نكون من الذين نسوا الله في الدنيا فنسيَهم في الآخرة، وحشرهم عُمياً لا يهتدون، ومَن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.