خطبة الجمعة 16 محرم 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الأسباط.. حماة التوحيد


ــــ انطلاقاً من قول النبي (ص): (الحسن والحسين سبطان من الأسباط) قدّمتُ لكم قبل أسبوعين ما توصّلتُ إليه من نتائج بخصوص المراد من الأسباط في القرآن الكريم، وفي هذا الحديث، ومراد النبي (ص) من الإشارة إلى أن الحسن والحسين من الأسباط.
ــــ وقبل أن أُكمل صورة ما ذكرتُ في تلك الخطبة، أمرُّ بشكل سريع على بعض النقاط:
1ـ النبي يقول للمسلمين: لقد عَلِمتم أمرَ الأسباط.. إنَّ شأن الحسنين كشأن الأسباط.
2ـ ورد ذكر الأسباط في القرآن الكريم 4 مرات، إلا أن الغموض يكتنف هويتهم.
3ـ بالرجوع إلى العهد القديم من الكتاب المقدّس، وبعد التوراة وسِفر يشوع وصي موسى، يأتي سفر باسم (سِفر القضاة)، وبالعودة إلى الأصل العبري لعنوان هذا السِّفر، كما جاء في الويكيبيديا تبيّن أنه (شُپِطيم) جمع (شُپِط) (שופט) أي سِفر الأسباط.
ـــ وقد أشكل بعض الأعزاء بأنه لا يمكن الاعتماد كثيراً على الويكيبيديا في التأكد من أن المسمّى الأصلي للسفر هو (شپِطيم) (שֹׁפְטִים).
ــــ الويكيبيديا أحال إلى كتاب: (مقدِّمة موجزة للعهد القديم: الكتاب المقدس العبري في سياقه)
A Brief Introduction to the Old Testament: The Hebrew Bible in Its Context
ــــ والمؤلف هو: مايكل ديفيد كوغان Michael David Coogan وهو محاضر في مادة العهد القديم باللغة العبرية في كلية اللاهوت بجامعة هارفارد ومدير المنشورات للمتحف السامي بهارفارد.
ـــ وهناك مصادر أخرى عديدة ذكرت ما سبق، من بينها قاموس العهد القديم باللغات العبرية والآرامية والإنجليزية A Hebrew and English Lexicon of the Old Testament، المطبوع سنة 1906 لعدة مؤلفين من بينهم فرانسيس براون.
ــــ وبالرجوع إلى كتاب (التفسير التطبيقي للكتاب المقدس) ص481، سنجد جدولاً يشتمل على عدد وأسماء هؤلاء القضاة، وهم اثنا عشر، أحد عشر رجلاً بالإضافة إلى امرأة!
ــــ أي لو رجعنا إلى التاريخ بالترتيب، سنجد النبي موسى، فوصيّه يوشع بن نون، فأحد عشر سبطاً (قاضياً) ومعهم امرأة من الأسباط.. تماماً كما هو الحال مع نبينا فعلي والزهراء وأحد عشر إمام!
ــــ وكان موسى (ع) قبل وفاته قد أوصى بني إسرائيل بالأخذ بالتوراة وبالانقياد لوصيه يوشع بن نون، وحذّرهم من الشرك بالله.
ــــ وقاد يوشع بني إسرائيل، وحقق لهم الانتصارات على أعدائهم الوثنيين، وقبل وفاته قال لهم: (والآنَ اتَّقوُا الرَّبَّ وَاعْبُدُوهُ بِكُلِّ أَمَانَةٍ، وَانْزِعُوا الأوثَانَ الَّتي عَبَدَها آبَاؤُكُمْ...) [يشوع:24/14].
ــــ وبعد زمنٍ من وفاة يوشع، عاد بنو إسرائيل إلى الشرك وفِعل الموبقات، فابتلاهم الله بأعدائهم الذين استضعفوهم، فجاء دور الأسباط لإعادة الناس إلى توحيد الله وطاعته والخلاص منهم.
ــــ جاء في كتاب (التفسير التطبيقي للكتاب المقدس) ص472: (يغطّي سِفرُ القضاة ما يزيد على 325 عاماً، مسجِّلاً ستَّ فترات متعاقبة من الاضطهاد والحرية، مستعرضاً سيرةَ اثني عشر محرراً). وفيه: (وسِفر القضاة هو سِفر الأبطال، إذ نجد فيه اثني عشر رجلاً وسيدة).
ـــ وفيه أيضاً: (وعندما نقرأ سِفر القضاة، علينا أن نُلقيَ نظرةً فاحصة على هؤلاء الأبطال... ملاحظين اتكالَهم على الله وطاعتَهم لأوامره).
ـــ بالطبع يجب أن أنبّه أن هذا السِّفر كباقي أسفار الكتاب المقدّس قد تعرّض للتحريف والتلاعب، ففي حين أنهم يُقرِّون الدور العظيم الذي قام به الأسباط في الدعوة إلى التوحيد وطاعة الله، إذ بهم ينسبون إليهم فعل بعض الأمور الشنيعة! تماماً كما فعلوا من قبل مع إبراهيم ولوط وداود وسليمان.
ـــ والذي يجعلنا مطمئنين من براءة الأسباط من تلك الاتهامات، أن الله ذكرهم في مصاف الرسل: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ) [آل عمران:84]... والآن فلنتحدث قليلاً عن إنجازاتهم:
ــــ جاء في سفر الأسباط [2/12-11] في وصف أوضاع بني إسرائيل بعد وفاة يوشع بن نون: (وَاقْتَرَفَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ... وَغَوَوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى مِنْ أوْثَانِ الشُّعُوبِ المُحِيطَةِ بِهِم، وَسَجَدُوا لَهَا، فَأَغَاظُوا الرَّبَّ).
ـــ ثم جاء دور القضاة [2/18]: (وَأَقَامَ الرَّبُّ مِنْ بَيْنِهِم قُضَاةً) وفي العبرية [וַיָּקֶם יְהוָה، שֹׁפְטִים; וַיּוֹשִׁיעוּם، מִיַּד שֹׁסֵיהֶם] والكلمة الثالثة [שֹׁפְטִים] وتُقرأ (شپِطيم ـ شفطيم) أي الأسباط.
ـــ ويبدأ السِّفر ببيان دور كل واحد من أولئك الأسباط، ويمكن تلخيص الأدوار التي قاموا بها كالتالي:
1ـ أعادوا بني إسرائيل إلى توحيد الله وطاعته. فقد توالى مشهد عودة بني إسرائيل إلى الشرك مع وفاة كل واحد من أولئك الأسباط، ليأتي سِبط آخر ويعيدهم إلى الجادة.
ــــ سفر الأسباط [2/19-18] (وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ الرَّبُّ يُقِيمُ قَاضِياً، كَانَ يُؤَيِّدُهُ بِقُوَّةٍ طِوَالَ حَيَاتِهِ... وَلَكِنْ مَا إِنْ يَمُوتُ الْقَاضِي حَتَّى يَرتَدُّوا عَن الرَّبِّ وَيَتَفاقَمُ فَسَادُهُم أَكثَرَ مِن تَفَاقُمِ فَسَادِ آبَائِهِم).
2ـ التربية الروحية والإيمانية، وقد كان للسيدة الوحيدة بين الأسباط، واسمها دَبُورة دور في ذلك.
ـــ (التفسير التطبيقي) ص493: (وقصتُها تُثبت أنها لم تكن تسعى إلى السلطة، بل كانت تريد أن تخدم الله. وكلما مدحها الناس، كانت تَرجِعُ بالفضل إلى الله. لم تُنكِر وضعَها في حضارة المجتمع كامرأة وزوجة، أو تتمرد عليه، ولكنها لم تَسمح مطلقاً أن يكون ذلك عائقاً أمامَها... وتضع أمامَنا حياةُ دَبُورة تحدّياتٍ في جوانب عديدة، فهي تذكّرُنا بالحاجة إلى أن نكون تحت تصرف الله... وتُبيِّن لنا بوضوح ما يستطيع شخصٌ أن يعمله عندما يكون المسيطر هو الله).
ـــ وقد نقل لنا هذا السِّفر بعضاً من (أناشيدِها) أي مناجياتهاِ وابتهالاتِها وأدعيتِها.
3ـ خوض الحروب من أجل تحرير بني إسرائيل من العبودية والاضطهاد. فبعد أن غَضِب الله على بني إسرائيل لِشِركهم غزاهم أحد الملوك فاستعبدهم 8 سنوات وعندها: (استَغاثَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالرَّبِّ، فَأَقَامَ لَهُم ُّ مُخَلِّصاً أنقَذَهُم هُوَ عُثْنِيئِيلَ بْنَ قَنَازَ أَخَي كَالَبَ الأَصْغَرَ. فَحَلَّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ)[3/10-9]. ثم يصف النص كيف حرّر عُثْنِيئِيلَ بني إسرائيل من العبودية.
4ـ التضحية والفداء من أجل المباديء والقيم التي نهضوا من أجلها، وتحمّلوا مسؤوليتها بأمرٍ من الله تعالى، فنجد ـــ على سبيل المثال ـــ آخرَ الأسباط واسمه شمشون، وهو كما في (التفسير التطبيقي للكتاب المقدس) ص519 (ممن آمنوا بالله، ونالوا ما وعدهم الله)، نجده يُدمِّرُ معبَد الوثنيين بتدمير العمودين الذين يرتكز عليهما السقف، فإذا بالمعبد ينهار على الأصنام وعلى الوثنيين وعلى نفسه، وهو مُكبَّل بالقيود بعد أسره، وقد اقتُلِعَت عيناه.
ــــ وبندائه في لحظة الفِداء يُضرَب المثل القائل: (عليَّ وعلى أعدائي يا رب).
ــــ وهكذا تبيّن لنا من خلال العرض السابق كيف عملت الترجمة إلى اللغات المختلفة للتراث العبري للكتب السماوية وغيرِها، وكذلك تبديل بعض الكلمات بكلمات أخرى، على ضياع مجموعة من الحقائق والمفاهيم على مدى مئات السنين، والتي كان بإمكانِها أن تُرشِدَ إلى بعض ما يشير إليه القرآن الكريم، كما في الآيات التي تحدَّثَت عن الأسباط، وما أشار إليه النبي (ص) في حديثه إذ قال: (الحسن والحسين سبطان من الأسباط)، وهذا ما يتطلّب من المحققين واللغويين أن يبذلوا المزيد من الجهود من أجل فكّ رموز بعض القضايا التي ما زال يكتنفها الغموض، ويمكن لها أن تفتح لنا آفاقاً جديدة من المعارف الدينية التي يزخر بها كتابُ الله عزوجل.