خطبة الجمعة 9 محرم 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: عاشوراء.. وسوء استغلال القوانين


ـــ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
ــــ أردت ـــ كالمعتاد ــــ أن أتناول هذه الآية الشريفة بالشرح والبيان وسبب النزول، فمن الطبيعي كي نفهم معنى الآية، وما هي الرسالة الموجهة إلينا من خلالها، أن نرجع إلى سبب النزول.
ــــ فرجعت إلى كتب التفسير، كتفسير الطبري وابن كثير والقرطبي، فإذا بأسباب النزول تتحدث عن فلان الصحابي.. فغيّرت رأيي، وتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، لأنني لا أريد أن أعرّض نفسي للمشاكل والمحاسَبة.. وهكذا أعرضتُ عن شرح الآية، وتفسيرها، والاستفادة منها.
ــــ وبدأتُ درسَ تفسير القرآن، وقررت أن أبدأ بسورة التحريم، ومن جديد رجعت إلى كتب التفسير، فإذا بالآيات الشريفة تتناول بعضَ شؤون البيت النبوي، وأحداث جرت بين النبي وبعض أزواجه.
ـــ فصرفت النظر عن تفسير هذه السورة، ويمّمت وجهي نحو سورة قصيرة، سورة الكوثر، فلما رجعت إلى التفاسير وجدتُها تتحدث عن والد صحابي، فخفت أن أذكر ذلك وأُتَّهَم أني أردت الإساءة إليه.
ــــ وهكذا تنقّلت بين قصار السور المكية، فإذا بالأمر يتكرر معها، وتذكرت بعض القوانين، فشعرت بمغص معوي خوفاً من أن يكون تفسيري لهذه السور سبباً لوجع الرأس.. فأعرضت عن الدرس.
ــــ وفي الذكرى السنوية لغزوة أحد، سألني بعض الإخوة أن أتحدَّث عن هذه الغزوة من واقع ما عرضه القرآن الكريم في سورة آل عمران، من خلال أسباب النزول، وتطبيق ذلك عن طريق ما جاء في تاريخ الطبري، والسيرة النبوية لابن هشام، وغيرهما من كتب السيرة عند المسلمين.. ماذا جرى؟ ولماذا هُزِم المسلمون؟ وكيف أثّرت إشاعة قتل النبي (ص) في المعركة على بعض المسلمين؟ ومَن بقي صامداً يدافع عن النبي ومَن لم يصمد حيث استوقفني قوله تعالى: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ)[آل عمران:153]؟.. إلخ التفاصيل.
ـــ مِن جديد رجعت إلى كتب التفسير وأسباب النزول وكتب السيرة، ثم اعتذَرتُ للأخ الكريم وقلت له: ما رأيك لو فتحنا كتاب كليلة ودمنة وقرأنا منه بعض القصص، فأنا في غِنىً عن القيل والقال.
ـــ فقال لي: أخاف أن يُقال أن مؤلفه كان من كفار الهند وأن المترجم زنديق! فقلت: إذاً نقرأ من رحلة ابن بُطوطة.. فقال لي: ولكن أخاف.. وقبل أن يُكمِل بيّنتُ له أني ألغيت البرنامج ككل.
ــــ وجاء موسم محرم، وطُلِب مني أن أرتقي المنبر، لأتحدث عن ثورة الإمام الحسين (ع)، فأعددتُ خطبتي، وعرضتُها على بعض الإخوة، لعل فيها ما قد يسبب سوء فهم أو إساءة.
ــــ فاقترح أحد الإخوة أن أشطب كل العبارات التي فيها ذِكر ليزيد، فهذا يُغضِب فلاناً.. وطلب مني الثاني أن لا أذكر الأمويين بسوء، لأن علاناً يحبُّهم وستُثار حفيظتُه بهذا الكلام.. وأصر الثالث على أن لا أُحلِّل أسبابَ الثورة الحسينية وخلفياتِها، فالأمر قد يثير حساسية البعض.. وأما الرابع فأشار عليّ من باب الاحتياط أن لا أتناول اسم أحدٍ من المعسكر المعادي للإمام الحسين ممن جاء ذِكرهم في تفاصيل الأحداث، لعل من بينهم مَن لا يصاح أن نذكره بسوء.
ــــ وخرج الأعزاء وإذا بورقتي لم يتبقّ منها شيء سوى على طريقة من أراد اختصار قصة النبي يوسف (ع): ضاع صبي في الصحراء، وبعد سنوات وجده أهله وقد صار وزيراً في مصر!
ـــ كان هذا السيناريو من وحي الخيال لما قد سيكون عليه الوضع بعد عدة سنوات، فيما لو استمرّ البعض بسوء استغلال قوانين الوحدة الوطنية والمطبوعات والنشر ومنع الإساءة ومنها قانون رقم 3 لسنة 2006 بشأن المطبوعات والنشر وفيه: (المادة 19: يحظر المساس بالذات الإلهية أو القرآن الكريم أو الأنبياء أو الصحابة الأخيار أو زوجات النبي(ص) أو آل البيت(ع) بالتعريض أو الطعن أو السخرية أو التجريح بأي وسيلة من وسائل التعبير المنصوص عليها في المادة 29 من القانون...إلخ).
ـــ أنا مع هذا القانون.. وقد تحدثتُ مراراً وتكراراً عن ضرورة احترام مقدسات الآخرين، والامتناع عمّا قد يسيء إلى الوحدة الإسلامية، وإلى حرمة السب واللعن، لأنه يتنافى مع تعاليم القرآن، ومع سيرة وأخلاق النبي (ص)، ومع توصيات أهل بيته (ع).. وخُطبي موجودة مسجلة بالصوت والصورة.. ولكن لا نريد أن نفتح المجال لتفسير كلمات (المساس، التعريض، الطعن، التجريح) الواردة في القانون بمزاجية.
ــــ كل قانون وتشريع قابل لأن يُفسَّر ويُطبَّق بأكثر من صورة، وأن يقع الخلاف بشأن المراد منه.. حتى التشريعات الإلهية الواردة في القرآن الكريم اختُلِف فيها.
ـــــ الوضوء الذي يأتي به المسلم كل يوم مرات عديدة، ونزلت بشأنه آية، اختلف المسلمون في معناها وتطبيقها، هل المراد غسل القدمين أم مسحهما؟
ــــ والحقيقة أنني أسأل إخواني من علماء أهل السنة والجماعة، والسلفية، والصوفية: كيف تعرضون تفسير الآيات والسور القرآنية التي أشرت إليها وأسبابَ نزولها؟ وكيف ستتحدّثون عن غزوة أحُد مثلاً وما جرى فيها؟ وكيف ستتحدّثون عن ثورة الإمام الحسين(ع) لو طُلِب منهم ذلك؟
ــــ وماذا تفعل الرقابة بمثل تفسير الطبري المعتَمد عند المدرسة الأشعرية، وتفسير القرطبي المعتمد عند المدرسة السلفية وهي كتب تذكر أسباب نزول الآيات وفي بعضها ما فيه؟ هل تمنع الكتاب؟ هل تشطب على أسباب النزول فيه؟ هل تزيل بعض أوراقه مثلاً؟ هل تمسح الأسماء الواردة فيه؟
ــــ ثم فلنفرض أن عالِماً أو مبلِّغاً أو خطيباً كانت لديه بعض الآراء والقناعات الخاطئة والمتطرّفة في وقت ما، وتم تسجيلها.. ثم بعد عشرين أو خمس وعشرين سنة نضَج وتغيّرت آراؤه وصار متَّزِناً وترك مقولاته تلك.. أيُعقَل أن يحاسَب عليها ويُرتَّب عليها الأثر بعد كل هذه السنوات؟
ــــ أتصوّر أن المسألة برمّتها بحاجة إلى إعادة نظر من حيث التطبيق، وإلى معالجة بطريقة مختلفة كي لا تتطوّر الأمور إلى ما هو أسوأ، ويتحوّل القانون الذي يُراد منه أن يكون وسيلةً لتحقيق الوحدة الوطنية، إلى قانون يُستَغَل لإثارة الفتن بين مكوّنات الوطن الواحد.
ـــ ولربما مِن سبل فك الاشتباك ونزع فتيل الأزمة أن تُشكَّل لجنة، ولو من أربعةٍ مِن أهل الحكمة ورجاحة العقل والخبرة والعلم من الطرفين، للتعامل مع الحالات الحساسة والطارئة، ولتكون المرجع في التحقّق في مثل ما أثير هذا العام على بعض الخطباء الحسينيين، وسبل التعامل مع الأمر عند ثبوته.. ولتكن اجتماعاتُها عاجلة كي تُعالِج الأمور بحكمة وقبل أن تتصاعد وتأخذ لها أبعاداً لا تَصب في المصلحة العامة.
ـــ وليس الغرض تشكيل لجنة من أيٍّ كان والسلام، بل أشدد على أن يكونوا من أهل الحكمة والتعقّل، لأن هناك في الطرفين مَن يبحث عن الإثارة، أو يسعى إلى الشهرة، أو مصاب بداء التعصّب، ولا يهمّه أن يدمّر الوطن، لأنه لا يعيش إلا ذاتَه أو عصبيّاتِه وأفقَه الضيِّق.
ــــ لقد قلتُ مِن قَبل، وأعيدُ قولي من جديد: إننا لا نريد من إحياء الذكرى المباركة لثورة الإمام الحسين (ع) أن تكون محطَّةً لإثارة النزاعات الطائفية، ولشحن الصدور ضدَّ بعضِنا البعض، وللإساءة إلى مقدَّساتِ الآخرين، ولزرع الفتنة بين المسلمين، فضلاً عن أبناء الوطن الواحد، فالحسين ليس للشيعة فقط، وما كانت ثورتُه ذاتَ طابعٍ طائفي، أو مِن أجل نُصرةِ مذهبٍ على آخر.. بل نريدها أن تكون محطةً تتناغم في أطروحاتها مع الشعارات التي أطلقها(ع) والمتمثّلة في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أننا في نفس الوقت نريد مِن الآخر أن يتفهّم خصوصياتِنا، وأن لا يُحوِّل الموسم في كل عام إلى سببٍ للإثارة الطائفية، وإشعال الساحة بالقيل والقال، من خلال البحث في الملفات القديمة التي قد يعود بعضُها إلى أكثر من عقدين من الزمان، ليسجِّل نقطةً هنا أو نقطةً هناك، وكأننا في حلبة مصارعة، وليس في وطنٍ نريد أن نتعايش فيه بمحبَّة، ونؤصِّل فيه كل ما يحقق التقارب والتلاحم فيما بيننا.