خطبة الجمعة 2 محرم 1439: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: فك لغز الأسباط

ـــ ذُكرِت كلمة (الأسباط) في القرآن الكريم ـــ معرَّفة بالألف واللام ـــ أربع مرات، مرتان في سورة البقرة، وثالثة في سورة آل عمران، ورابعة في سورة النساء.. وكلها سور مدنية.
ـــ في سورة البقرة كان الحديث موجهاً لليهود والنصارى: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:135-136].
ـــ وتتمة للخطاب السابق قال تعالى في الآية 140 منها: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ).
ــــ وهكذا جاءت الآية 84 من سورة آل عمران في سياق الحوار مع أهل الكتاب: (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
ــــ وأيضاً في إطار الحديث عن أهل الكتاب وموقفهم من قضية التوحيد والنبوة قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)[النساء:163-164].
ـــ وفي موردٍ واحد جاءت الكلمة من دون (ال): (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا)[الأعراف:160] وهي سورة مكية، واستُعمِلت الكلمة هنا في معنى مغاير لما في الآيات المدنية، فالمراد هنا كما في لسان العرب: (السِّبْطُ من اليهود: كالقبيلة من العرب، وهم الذين يرجعون إِلى أَب واحد).
ــــ في كل الموارد الأربعة الأولى جاء الحديث عن الأسباط في سياق الحديث عن الأنبياء والمرسلين والرسالات، فمن هم الأسباط؟
ـــ ذهب كثيرون إلى أنهم أسباط النبي إبراهيم(ع)، أي يوسف وإخوته، وعددهم اثنا عشر سبطاً.
ـــ وذهب آخرون إلى أنهم أنبياء من سلالة أولاد يعقوب (ع)، دون تحديد لهم.
ـــ وفي رأي آخر أنهم كانوا من ذرية أولاد يعقوب (ع)، ولكنهم ما كانوا من الأنبياء، بل كانوا من الأوصياء، وأيضاً دون تحديد لهم.
ـــ ولي رأي في الموضوع توصلتُ إليه بفضل من الله.. فالقرآن الكريم في العهد المدني حيث يخاطب أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، يحيلهم إلى العهد القديم المشتمل على التوراة وغيرها من الكتب، وما فيه من ذِكرٍ لأنبياء وشخصيات عهدوها وارتبطوا بها في تاريخهم الممتد لقرون.
ـــ وبالتالي حين يذكر الأسباط ضمن حديثِه عن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء (ع)، لابد وأنه يقصد مجموعة معينة لها ارتباط خاص فيما بينها، وليس المراد بعض أنبياء بني إسرائيل بشكل مبعثر، ولا المراد أولاد يعقوب، لأنهم ــ ما عدا يوسف(ع) ـــ ليسوا بهذا المستوى الذي يُجعلون فيه مع تلك الأسماء، لاسيما مع ما حكاه القرآن عنهم.
ــــ وفعلاً، عندما نرجع إلى العهد القديم، سنجد بعد (سِفر يشوع) مباشرة (سِفر القضاة)، وبمراجعة كتاب (التفسير التطبيقي للكتاب المقدس) ص481، وجدت جدولاً يشتمل على عدد وأسماء
هؤلاء القضاة، فإذا هم اثنا عشر، أحد عشر رجلاً ومعهم امرأة!
ــــ أي لو رجعنا إلى التاريخ بالترتيب، سنجد النبي موسى، فوصيه يوشع بن نون، فأحد عشر قاضياً ومعهم قاضية.. تماماً كما هو الحال مع نبينا فعلي والزهراء وأحد عشر إمام!
ــــ ولكن هل كلمة (قضاة) هو التعبير الدقيق لما ورد في النص الأصلي؟ عندما تعود إلى الويكيبيديا تحت عنوانBiblical judges) ) أي (قضاة الكتاب المقدس) فستجد أنه يطلق على الفرد منهم في العبرية šōp̄êṭ وتلفظ (شُپِط) أو بالفاء، وهو يقابل كلمة (سِبط) بالعربية.
A Biblical judge (Hebrew שופט ‎šōp̄êṭ/shofet, pl. שופטים‎šōp̄əṭîm/shoftim) was "a ruler or a military leader as well as someone who presided over legal hearings." These judges appear most often in the Book of Judges, which is named after them.
ـــ وبالتالي فهم ليسوا قضاة بالمعنى الدقيق، بل حكام وأولياء وقادة، وكتابهم في العهد القديم اسمه الأصلي (سفر الأسباط / شُپِطيم).. فماذا كان دورهم؟
ـــ قبل أن يتوفى موسى (ع) استدعى جميع بني إسرائيل وأوصاهم من جديد بالتمسك بتوحيد الله وبطاعته، والعمل بالمواثيق التي أخذها عليهم، ثم قال لهم كما في (سفر التثنية) من التوراة: (أنا اليوم قد بلَغت من العمر مائة وعشرين سنة، وصرتُ عاجزاً عن قيادتكم.. وسيكون يشوع قائدُكم كما وعَد الرب.. وكان الرب قد قال لموسى: ها أنت قد أوشكتَ على الموت، وأيامُ حياتِك باتت معدودة، فادعُ يَشوع، وقِفا كلاكما عند خيمة الاجتماع لكي أوصيه.. وقال الرب لموسى: ما إن تموت وتلحق بآبائك حتى يُسرعَ هذا الشعب ويفجُر وراءَ آلهة الغُرباء).
ـــ وقاد يوشع بني إسرائيل، ووقَعت مسؤولية الحفاظ على الرسالة من بعده على الأسباط (القضاة) الواحد تلو الآخر، فواجهوا الانحراف عن التوحيد، وعن طاعة الله فيما أمر ونهى، حتى عُبِّر عنهم بالأبطال، لأنهم كانوا أبطال دعوة التوحيد والحفاظ على رسالة السماء وشريعة الله.
ـــ ولربما تكون لنا وقفة أخرى تفصيلية مع ما جاء عن دور الأسباط في حماية رسالة السماء، تماماً كما قال النبي عن عترته: (ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً).
ــــ لقد كان الأسباطُ الذين ذُكروا في العهد القديم بعنوان (القضاة) ـــ وهي ترجمة غير دقيقة للكلمة العبرية (شُپِطيم) ــــ كانوا أولياءَ بني إسرائيل مِن بعد موسى ووصيِّه يوشع بن نون، والهداةَ لهم وحملةَ الرسالة وحفظةَ الدين.. منهم امرأة وأحد عشر رجلاً، ليكون مجموعهم مع موسى ويوشع أربعة عشر.. وبالأسباط ربط النبي الأكرم (ص) الحسن والحسين حيث قال: (الحسن والحسين سبطان من الأسباط) ليقول للمسلمين: إن الحسن والحسين في الولايةِ والهدايةِ وحملِ الرسالةِ والحفاظِ على الدين بمثابة أولئك الأسباط في بني إسرائيل.. فهما من الأربعة عشر أنوار الولاية والهداية، رسول الله (ص) فعلي فالزهراء فالحسن والحسين فالأئمة من ذرية الحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. اللهم اجعلنا من المتمسكين بولايتهم والمهتدين بهداهم إنك سميع مجيب.