خطبة الجمعة 24 ذوالحجة 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الاستشراق اليهودي والواقع العربي


ـــ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا، مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ)[النساء:44-46].
ـــ أسهم مسلَمة اليهود في القرنين الهجريين الأول والثاني ــــ كما لا يخفى ــــ في تحريف وتشويه التراث الإسلامي الخاص بتفسير القرآن والحديث النبوي والتاريخ والمعتقَد.
ـــ واستمر هذا الدور ـــ وإن تضاءل بشكل كبير في قرون لاحقة ـــ ليعود بقوة مع بروز ظاهرة الاستشراق في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث كان للمستشرقين اليهود حضور بارز في هذا المجال، وقدَّموا نتاجات متنوعة، بما في ذلك ما يخص القرآن الكريم.
ــــ فقد عمد بعض المستشرقين اليهود إلى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة العبرية واللغات الأوروبية، وتقديم دراسات حول تاريخ القرآن ومفاهيمه، وضمّنوها الكثير من الأفكار والمعلومات المغلوطة التي بقيت آثارها حاضرة لدى الغرب إلى هذا اليوم، وأثّرت في نظرتهم وفهمهم للإسلام.
ـــ هذا الدور الاستشراقي اليهودي لم يقتصر على البُعد النظري والفكري، بل أخذ ـــ بمرور الوقت ومع بروز بعض المستجدات على الساحة العالمية ـــ منحىً آخر لا يقل خطورة عنه.
ــــ فقد قسّم بعضُ الباحثين المختصين جهودَ اليهود في هذا المجال إلى ثلاث مراحل، ولكل مرحلة خصوصياتها ودورها الذي تم توظيفه في نهاية المطاف لخدمة المشروع الصهيوني:
1ـ مرحلة الاستشراق اليهودي، والتي جاءت في إطار الحركة الغربية للاستشراق ككل.
2ـ مرحلة الاستشراق الصهيوني، والتي ارتبطت بالحركة الصهيونية التي ظهرت أواخر القرن 19 الميلادي، فأصبح له أهدافه وموضوعاته الخاصة التي تهدف لخدمة الحركة الصهيونية والتمهيد لتأسيس الكيان الإسرائيلي في فلسطين.
3ـ مرحلة الاستشراق الإسرائيلي، والتي بدأت مع الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام 1948م، وجمعت بين أهداف المرحلتين السابقتين، والأهداف السياسية والأمنية والمخابراتية والتوسعية للكيان الصهيوني.
ــــ وإدراكاً مبكِراً منهم لأهمية قيام مؤسسات (علمية) توظِّف جهود مستشرقيها وتنسِّق فيما بينهم، لم ينتظر الصهاينة قيام دولتهم ليؤسسوا تلك المراكز بما يخدم مشروعهم الاستعماري الهادف إلى تمزيق الصف الإسلامي والعربي، وإضعاف لثقة المسلمين بدينهم، والتشكيك في متبنياتهم.
ــــ ففي المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 تقدم (تسفي شابيرا) باقتراح تأسيس (الجامعة العبرية في القدس). ولكثرة العقبات استغرق الأمر 28 سنة إلى أن تحقق..
ــــ 16 سنة منها بُذِلت لشراء قطعة أرض في القدس. وفي عام 1918، أي بعد عام من الاحتلال البريطاني لفلسطين، أقيم حفل وضع حجر الأساس، لتُفتتح الجامعة بعد ذلك في عام 1925 في حفل حضره اللورد البريطاني بلفور صاحب الوعد المشؤوم.
ــــ ومع قيام دولتهم، انصبّت جهود (قسم الدراسات الاستشراقية) في الجامعة على تقديم الخدمات العلمية لوزارتي الخارجية والدفاع في إسرائيل! مما يعني الاهتمام بتوظيف نتائج البحوث والدراسات ميدانياً ومن قبل الدولة، على خلاف ما يجري في الكثير من الدول العربية والإسلامية.
ــــ بالطبع لابد أن ندرك أن هذه الدراسات والبحوث لا تأتي من أجل التزلّف للحكومة، والثناء على برامجها واستراتيجيتها وخططها المستقبلية، كما يحصل في غالبية الدول العربية والإسلامية، بل تُقدّم ما تتوصل إليه سواء أوافق الحكومة أو خالفها، فالغاية عندهم أهم من الأفراد والحكومات.
ــــ وتنبثق عن هذه الجامعة الآن خمس مؤسسات بحثية تتنوع نشاطاتها بين دراسة الحضارة الإسلامية، وشؤون اليهود في بلاد المسلمين، والصراع العربي ـــ الإسرائيلي، ونشر بحوث المستشرقين الإسرائيليين في الشؤون الإسلامية والعربية.. وهناك جامعات ومؤسسات بحثية أخرى عديدة.
ـــ ثم لاحظ كيف يتم توظيف دراسات المستشرقين اليهود. مثال على ذلك ما جاء في عدد 30 أكتوبر 1992 من مجلة Executive Intelligence Review (EIR) الصادرة عن (حركة لاروش: وهي منظمة دولية عالمية تهتم بالاقتصاد والسياسية والثقافية والحياة الاجتماعية) كتب (جوزيف بريودا) مقالاً بعنوان: (خطة برنارد لويس الجديدة سوف تنقذ الشرق الأوسط) تحدث فيه عن الكيفية التي تم بها تفكيك حواف الإمبراطورية السوفياتية وفق خطة المستشرق اليهودي (برنادرد لويس) فانهارت، وأن المشروع القادم وفق مقالة للويس نفسه (إعادة التفكير في الشرق الأوسط) هي لبننة الشرق الأوسط، بمعنى إطلاق الحروب البينية القائمة على أساس طائفي وعرقي، ومن ثم خلق كيانات ودويلات صغيرة تتفكك من خلالها الدول العربية بحدودها الحالية، لتُرسم من خلال ذلك خارطة جديدة للمنطقة.. والمستفيد الأول بالطبع هو الكيان الصهيوني.
ـــ واليوم يدور حديث عريض عن مستقبل المنطقة على ضوء ما جرى بعد تقسيم السودان واحتمالات تقسيم العراق وسوريا وما تشهده المنطقة ككل من أوضاع سياسية وعسكرية وأمنية غير مستقرة، واليد الاستخباراتية الصهيونية التي امتدت عابثة وبقوة بالمشهد الطائفي والعرقي، وكان العرب والمسلمون الأدوات التي استُخدمت بخضوعهم لعصبياتهم وعواطفهم وقراءتهم السطحية للأحداث.
ــــ إن النشاط الاستشراقي اليهودي لم يُقصِر جهودَه على البُعد النظري، بل وظّفها ووجّهها لخدمة الكيان الصهيوني في المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والمخابراتية، لأن القائمين على هذا النشاط يدركون تمام الإدراك أن معرفةَ الخصم ـــ في نقاط قوته وضعفه ـــ معرفةً حقيقيةً هي أول الطريق لتحقيق النصر عليه. وما لم تتحقق هذه المعرفة فسيبقى الخصم منتصراً، يفرض شروطه، ويسير نحو تحقيق غاياته وأهدافه.. وبانتظار اليوم الذي يُدرك فيه العرب والمسلمون أهميةَ إنشاء مراكزَ الدراساتِ والبحوثِ الاستراتيجية الجادة، والقائمة على أسسٍ علمية، والمعتمِدة على الشفافية والحيادية، وتوظيفها من قبل الجهات المختصة لمواجهة عدوّهِم الذي لا يدّخر وُسعاً، ولا يَدعُ باباً إلا ويطرقُه، ما دام يخدمُ قضيتَه، ويحققُ أهدافَه. وما أشبه اليومَ بالأمس حين نقارن أوضاعَنا بأوضاعِهم حيث قال أمير المؤمنين (ع): (فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً، مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً، فَيَا عَجَباً ـــ عَجَباً وَاللَّهِ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ ــــ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ).