خطبة الجمعة 17 ذوالحجة 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: عيد الغدير، يوم المسؤولية


ـــ (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) [الإسراء:53].
ـــ في إحيائنا لذكرى غدير خم أبعاد متعددة، من بينها:
1ـ الاحتفال بهذه الذكرى المباركة لإبقائها نابضةً بالحياة مهما مرّ الزمان، وتعاقبت الأجيال، وتناغماً مع قول الله عز وجل في كتابه الكريم: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم:5].
2ـ تجديد العهد بالنبي الأكرم (ص) وأهل بيته الأطهار (ع)، وترسيخ الولاء لهذه المدرسة العظيمة على المستوى الإيماني، والروحي، والتشريعي، والأخلاقي.
3ـ تحمّل مسؤولية الانتماء إلى هذه المدرسة بالالتزام بالمنهج الوحدوي الذي رسّخه أمير المؤمنين علي(ع) وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، حيث قال كما في الكلمة برقم 5 من نهج البلاغة: (لمّا قُبض رسولُ الله(ص) وخاطبه العباسُ وأبوسفيانَ في أن يبايعا له بالخلافة، وذلك بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة، وفيها يَنهى عن الفتنة ويُبين عن خُلُقِه وعِلمِه: أَيُّها النَّاسُ، شُقُّوا أَمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَريقِ الـمُنَافَرَةِ...) ثم بيّن أن موقفه بعدم المصادمة لم ينشأ عن جُبن منه وقال: (وَاللهِ لاَبْنُ أَبي طَالِب آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الأرْشِيَةِ) الحبل (في الطَّوِيِّ) البئر (البَعِيدَةِ).
ـــ ومن جديد أكّد الإمام (ع) على ذات المنهج حيث قال في الكلمة 73 من نهج البلاغة: (لمّا عزموا على بيعة عثمان: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي، وَوَاللهِ لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِا جَوْرٌ إِلاَّ عَلَيَّ خَاصَّةً، التمَاساً لِأَجْرِ ذلِكَ وَفَضْلِهِ، وَزُهْداً فِيَما تَنافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَزِبْرِجِهِ).
ـــ إحياؤنا لذكرى الغدير الأغر، وسائر المناسبات يجب أن يصب في هذا الاتجاه الوحدوي الذي رسم الإمامُ معالمَه بكل وضوح وشفافية، وإلا فلن نكون صادقين في انتسابنا لمدرسته المباركة.
ـــ من مسؤوليتنا أن نسعى ألا نحوّل هذه المناسبات إلى محطة للفتنة، ومحطة لإثارة النزاعات، ومحطة لافتعال الصراعات المذهبية، وإلى بوابةٍ لنفوذ الشيطان الباحث عن كل ثغرة ينزغ من خلالها بين الإخوة، في الوقت الذي أكّد فيه الإمام (ع) أن الناس: (صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).
ـــ أي مهما اختلفنا مذهبياً، فإن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (ص) تجعل من كل المؤمنين بها إخوة في الإيمان، وقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10].
ـــ وعلى الطرف الآخر أن يتقبَّلَ خصوصياتِنا المذهبية، ما دمنا لا نسيء إلى مقدساته، وما دمنا نحتفي بالمناسبة ضمن الإطار المناسب.
ــــ وإذا كانت لدى أحد أية ملاحظة، فلابد أن يتم طرح ذلك من خلال الحوار، وعقد الجلسات العلمية، وتبادل الرأي، لا بالعنف وإثارة النزاعات.
ـــ وقد نقل لنا التاريخ صوراً مؤسفة لمناسباتٍ مذهبية تحوّلت إلى حلبة للفتن، أدّت إلى قتل الأبرياء وإحراق الناس أحياء، وتدمير مناطق سكنية بأكملها، والتعدّي على الحُرُمات بأبشع الصور.
ـــ وكنموذج على ذلك ما جاء في أحداث سنة 363 ه من كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير حيث قال ـــ وأنقل كلامه بالنص مع التحفظ على بعضه تعابيره ـــ : (في عاشوراء عُمِلت البدعة الشنعاء على عادة الروافض) يقصد إقامة مراسم العزاء الحسيني (ووقعت فتنةٌ عظيمةٌ ببغداد، بين أهل السنة والرافضة، وكِلا الفريقين قليلُ عقلٍ أو عديمُه، بعيدٌ عن السداد، وذلك: أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة وسمَّوها عائشة، وتسمَّى بعضُهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقال: نقاتلُ أصحابَ علي) وبالتالي هجموا على المجالس العاشورائية (فقُتل بسبب ذلك من الفريقين خلقٌ كثير، وعاث العيَّارون) أي البلطجية بالتعبير المعاصر (في البلد فساداً، ونُهبت الأموال).
ــــ استحضار هذه المشاهد التاريخية لأغراض تربوية، وتضمينها في المناهج التعليمية يعد أمراً مهماً، لكي تدرك الأجيال ضرورة التعامل المسؤول مع التطرف، وتنتشل نفسها من براثن الكراهية.
ـــ قبل يومين نشرت إحدى الصحف المحلية مقالاً لرئيس وزراء بلجيكا الأسبق (جاي فيرهوفستات) كتبه على إثر مقتل الناشطة المناهضة للفاشية (هيذر هير) وإصابة كثيرين آخرين في فيرجينا الأمريكية في أجواء مظاهرة أقامها النازيون الجدد، وتحدث فيه عن تنامي روح التطرف في أمريكا وأوروبا وبروز الفاشية والنازية. قال في نهاياته: (مع تصاعد الكراهية اليوم مرة أخرى، يتعين علينا أن نتذكر أن التعليم عنصر حاسم في الكفاح ضد الاستبداد... يتعين علينا أن نشجع الناس على التأمل في دروس الماضي، عندما ارتُكِبَت انتهاكات شنيعة ضد الملايين من البشر).
ـــ الآية التي صدّرتُ بها خطبتي هذه: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) أعقبتها آيتان: (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)[الإسراء:53-55].
ـــ والآن لاحظ ماذا قال العلامة الطباطبائي في تفسيره لهذه الآية، وكلامه مهم جداً: (الآية وما بعدها من الآيتين ذات سياق واحد، وخلاصة مضمونها: الأمر بإحسان القول ولزوم الأدب
الجميل في الكلام تحرُّزاً عن نزغ الشيطان، وليعلموا أن الأمر إلى مشيَّة الله لا إلى النبي).
ـــ ثم قال: (ومن هنا يظهر أن المؤمنين قبل الهجرة ربما كانوا يحاورون المشركين فيُغلِظون لهم في القول ويخاشنونهم بالكلام وربما جَبَهوهم بأنهم أهل النار، وأنهم معشر المؤمنين أهلُ الجنة ببركة من النبي (ص)، فكان ذلك يُهيِّج المشركين عليهم ويزيد في عداوتهم ويبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم وتعذيبهم وإيذاء النبي (ص) والعناد مع الحق. فأمر الله سبحانه نبيَّه (ص) أن يأمرهم بقول التي هي أحسن).
ـــ إذا كان الأمر هكذا تجاه المشركين، أليس من الأولى أن يكون كذلك بين المسلمين بعضهم البعض؟
ـــ إن هذا المنطق القرآني الداعي إلى اعتماد القول الأحسن هو الذي يجب أن يسود في أسلوب إحيائنا لمناسباتنا المذهبية، وفي طريقة تعامل الآخر معنا فيما له من ملاحظات حول ذات الموضوع، وفي تعاملنا وتحاورنا مع بعضنا البعض في المسائل التي نختلف فيها، لأن هذا الأسلوب هو الذي يعرقلُ مشاريعَ الشيطانِ في أن ينزغَ بين الإخوة، ويُغلِقُ أمامَه أبوابَ الفتن. ولنتذكر بأن كثيراً من صور الصراع المذهبي هي في الواقع صراعات سياسية أو حزبية أو لمصالح شخصية أُلبِست لباس الانتصار للدين والمذهب لقداستهما في النفوس.. فلنحذر أن نكون حطباً لنيران مؤجِّجي الفتن، وأن نكون أتباعاً لهم لا عن بصيرة، وقد قال عزَّ مِن قائل: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ).