خطبة الجمعة لسماحة الشيخ علي حسن غلوم وهي قطعة أدبية رائعة حول الإمام علي عليه السلام


ألقيت في 3 رجب 1430 هـ
ـ هلاّ أعرت دنياك أذناً صاغية فتخبرُك بما كان من أمر عظيم ما اعتادت الدنيا أن تحدِّثـَك عن مثله إلاقليلا بين جيل وجيل!
ـ هلاَ أعرت دنياك أذناً صاغية فتُلقي إلى كيانك جميعاً بخبرِ عبقريٍّ حَمَلت منه في وجدانها قصةَ الضمير العملاق يعلو ويعلو حتى لَتهونُ عليه الدنيا وتهونُ الحياةُ ورؤيةُ الشمسِ المشرقةِ الغاربة، وحتى يندفعَ بصاحبه ارتفاعاً.. فما هو من الآدميين إلا بمقدار ما يُسمَّون بمقياس الضمير والوجدان!
ـ هلا أعرت دنياك هذه الأذن وهذا القلب وهذا العقل فتَروي لك قصة الشهادة تَصبُغُ الفجر والشفق بدم العدل والحق الصريعين، فإذا دماء الشهداءِ في أواخر الليل فجرانِ وفي أولياتِه شَفقان!
ـ هلا ضربت بعينيك حيث شئت من تاريخ هذا الشرق، سائلاً عن فكرٍ هو من منطق الخير نقطةُ الدائرة، تُشد إليها آراءٌ جديدةٌ في الحياة والموت، ونظرات عميقةٌ في الشرائع والأنظمة والدساتير وقوانين الأخلاق!
هلا سألته عن فكرٍ أنتج للناس مذهباً في الحكمة هو من مذاهب العصور ومن نتاجها القيّم يرثُه الأوّلون فيورِّثونه
الأبناءَ والأحفاد!
هلا سألتَه عن ذكاءٍ غريب أورث صاحبَه الشقاء والناسُ منه في نعيم، ومدَّ أمام أنصاره وأخصامه الطريقَ وما يزال!
هلا عرفتَ العقل الجبار يقرر منذ بضعةَ عشرَ قرناً الحقيقةَ الاجتماعيةَ الكبرى التي تضع حدّاً لأوهامٍ لها ألفُ مصدر ومصدر فيعلنَ أنه ما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني! ثم يُردف قائلاً لتقييم هذه الحقيقة: ما رأيتُ نعمةً موفورةً إلا وإلى جانبها حقٌّ مضيَّع!
هل عرفتَ مِن الخلق أميراً على زمانه ومكانه، دانت له كنوزُ الشرق والغرب يَطحَنُ لنفسه فيأكل خبزاً يابساً يكسره على ركبتيه، ويرقـَعُ خُفـَّه بيديه ولا يكتنز من دنياه كثيراً أو قليلاً، لأن همَّه ليس إلا أن يكون للمستضعف والمظلوم والفقير نصيراً، يُنصِفُهم من المستغلين والمحتكرين، ويُمسك عليهم الحياةَ وكريمَ العيش، فما يَعنيه أن يشبع ويرتوي وينامَ هانئاً وفي الأرض مَن لا طمع له في القرص، وفيها بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى؟ ويوصي أبناءه وأنصاره ألا يسيروا مع نفوسهم غير هذه السيرة، ثم يقاضي أخاه لمكانِ دينارٍ طلبه من مالِ الشعب من غير بلاء، ويقاضي أعوانَه ومبايعيه وولاتَه من أجل رغيفٍ يأكلونه في رشوةٍ من غنيٍّ.
هل عرفت إماماً لدين يوصي ولاتَه بمثل هذا القول في الناس: فإنهم إما أخٌ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق.
أعطهم من عفوك وصفحك مثلَ الذي تحب أن يعطيَك الله من عفوه وصفحه؟
هل عرفتَ في موطن العدالة عظيماً ما كان إلا على حق، ولو تألّب عليه الخلقُ في أقاليمِ الأرضِ جميعاً، وما كان عدوُّه إلا على باطل ولو ملأ السهلَ والجبل؟
هل سألتَ التاريخَ عن محاربٍ شجاعٍ فائقِ الشجاعةِ يبلغ به حبُّه لصِفَةِ الإنسان في مقاتليه ويبلغُ عطفُه عليهم أن يوصيَ أصحابَه وهو المصلح الصالح الكريم المغدور به: لا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبِراً ولا تصيبوا مُعوِراً ولا تُجهِزوا على جريح، ولا تهيِّجوا النساء بأذى؟
ثم هل سألت تاريخَ هذا المشرقِ عن نهجٍ للبلاغة آخذٍ من الفكر والخيال والعاطفة آياتٍ تتصل بالذوق الفني الرفيع ما بقي الإنسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر.. مترابطٍ بآياتِه متساوق، متفجِّرٍ بالحس المشبوب والإدراك البعيد، متدفقٍ بلوعةِ الواقع وحرارةِ الحقيقةِ والشوقِ إلى معرفةِ ما وراء هذا الواقع، متآلفٍ يجمع بين جمال الموضوع وجمالِ الإخراج حتى ليندمجَ التعبير بالمدلول أو الشكلِ بالمعنى اندماجَ الحرارة بالنار والضوء بالشمسِ والهواءِ بالهواء!
وسواءٌ لدى الحقيقةِ والتاريخ، أعرفتَ هذا العظيم أم لم تعرفه، فالتاريخُ والحقيقةُ يشهدان أنه الضميرُ العملاقُ الشهيدُ أبو الشهداءِ، مولى الموحدين وإمامُ المتقين زوجُ البتول وابنُ عم الرسول أسدُ اللهِ الغالب عليُّ بنُ أبي طالب. نسأل الله تعالى في الدنيا اتباعَه وزيارةَ مرقده الشامخ، وفي الآخرة شفاعتَه ومجاورتَه في جنة عرضُها السماواتُ والأرض أعدت للمتقين.