خطبة الجمعة 26 ذوالقعدة 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الشباب بين الحماسة والحكمة


ـــ تحدث القرآن الكريم عن بعض تفاصيل قصة النبي موسى(ع) في أكثر من سورة.. إلا أنه قدّم لنا في سورةِ القَصص بعضَ التفاصيل التي لا نجدها في سور أخرى، ومن بينها قصته وهو شاب يعيش في بلاط فرعون معزَّزاً، حيث اتخذته امرأةُ فرعون طفلاً كالولد، وترعرع في قصرها لسنوات.
ـــ ومن بين المشاهد التي قدّمها القرآن الكريم لفترة شباب موسى(ع) المشهد التالي: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ...) [القصص:15-16].
ـــ بعد تلك المكانة والعزة أصبح موسى(ع) في المدينة خائفاً يترقّب.. ثم يتكرر المشهد أمامه من جديد، ويكاد أن يتعامل معه بنفس الطريقة التي ندم عليها مسبقاً، لولا اكتشافُه أن أمرَه قد افتُضِح.
ــــ وتتوالى الأحداث، إلى أن يأتيه التحذير بأن الملأ يأتمرون به ليقتلوه: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص:21].
ــــ هذه هي طبيعة عهد الشباب عموماً، ومن أهم ما يميزها:
1ـ انبعاث الآمال والتطلعات نحو بناء المستقبل الشخصي والعام، وتحديد المكانة في المجتمع.
2ـ توهُّج المشاعر، والانقياد إلى العاطفة، اتساقاً مع نمو الجانب العاطفي لديهم بسرعة أكبر من نضجهم العقلي.
3ـ الحماسة والعنفوان والقوة.
ـــ ولذا نجد أن الشاب ابن العشرين يُقدِم على ما لا يُقدِم عليه ابنُ الأربعين، بل وابنُ الثلاثين.. هذه هي طبيعة المرحلة السنية التي يمرّ بها.. ومن هنا نجد أن عاطفة موسى(ع) وحماسته جرّته إلى اللجوء إلى العنف في مواجهة موقف لربما كان بالإمكان التعامل معه بأسلوب آخر بعيد عن ذلك.
ـــ أما الذي ساقه إلى الموقف العنيف وغير المناسب فهو ما بيّنته الآية الشريفة حيث قال تعالى: (هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ).. عاطفة الانتماء.. وتقسيم المجتمع إلى معسكرين.. جماعتي.. وأعدائي.. حب شديد وتضحية من أجل جماعته.. وبغض وعنف تجاه المعسكر الآخر.
ـــ بالطبع فإن المقدار من العلم والحكمة التي وهبها الله تعالى لموسى(ع) حيث قال سبحانه: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) [القصص:14] هذا المقدار جعله يقيّم الموقف بعد ذلك بسرعة وبالشكل الصحيح: (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي).. ومع هذا كاد أن يكرر ذات العمل الذي أرجع منشأه إلى الشيطان.
ـــ لماذا؟ لأن العاطفة لدى الشاب قوية جداً، فهي تَغلب الحكمة والعلم.. وتختفي عندها ملامح وعِبر تجارب الآخرين.. بل وحتى تجربته السابقة ومعاناته الشخصية.
ــــ هذا الانجرار إلى العاطفة القوية القائمة على الإحساس بالانتماء، والمواقف المترتبة عليها كلّفته الكثير، واضطرّته إلى أن يفقد الأمن والامتيازات التي كان يتمتع بها، وأن يهجر وطنَه، وأن يخسر مكانته الاجتماعية، وأن يهرب خائفاً مطارَداً، وأن يعيش في الصحراء عشر سنوات.
ــــ عن أمير المؤمنين علي(ع): (ينبغي للعاقل أن يحترس من سُكر المال، وسُكر القدرة، وسُكر الشباب، فإن لكل ذلك رياحاً خبيثة) أي تأثيرات سلبية (تسلب العقل وتستخف الوقار).
ـــ ولا ينبغي أن ننسى العوامل الخارجية المؤثرة بقوة من قبيل:
1ـ التأثير التحريضي لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، والذي يعمل على إذكاء مشاعرِهم، والتشجيع على التمرد على القيم، تارة تحت شعار الحرية واستقلالية الشخصية، وأخرى بذريعة التجديد، أو عدم فهم الآباء للواقع أو حتى اتهامهم بقبول الذل والخضوع.
2ـ استثارة الشهوة والغريزة والدفع نحو المغامرة والعنف عن طريق البرامج والأفلام التي يتابعونها.
3ـ العامل التكنولوجي الذي سرق أبناء هذا الجيل، وأخذهم بعيداً عن واقعهم الاجتماعي، فانعزلوا في أفكارهم وحواراتهم، ورسموا تصوراتهم من وحي العالم الافتراضي، فابتعدت قراراتهم عن الواقعية وغابت عنهم مجموعة من العوامل التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبارعند اتخاذ القرارات المصيرية.
ـــ هذه الخلطة المزدحمة بالمؤثرات الداخلية والخارجية تضغط بقوة على جيل الشباب، وتجعل عالَمَهم مليئاً بالتحديات، وتدفعهم لأن يعيشوا نوعاً من الاغتراب والازدواجية بين الموروث الديني وبين الواقع الذي يتفاعلون معه.
ـــ ومن هنا نقول:
1ـ بضرورة استثارة العقل والحكمة لدى الشباب وبشكل دائم، لأن من شأن الانفعال الشديد والعاطفة القوية أن تحجب دور العقل لدى الإنسان.
2ـ التأكيد على أهمية وجود مرجعية ــــ ولا أقصد المعنى الاصطلاحي للكلمة بل المعنى اللغوي ـــ عاقلة وواعية، عركتها الحياة، وأنضجت خبراتِها، تكون هي ملجأ الشباب لتقييم التصرفات والمواقف وردات الأفعال.
ــ إننا لا نريد هنا أن نسلب الشباب حقاً من حقوقهم، لا على المستوى الفكري ولا على المستوى العملي، ولكننا نؤكد على ضرورة أن يعوا طبيعة وخصائص المرحلة التي يعيشونها، وأنها تفرض عليهم التواصل مع أصحاب الرأي والحكمة والخبرة في الحياة، وأن الخطوات التي يُقدِمون عليها نتيجة التعجّل والتفرّد في القرار، والانسياق وراء عاطفتِهم الشديدة، قد لا تمسّهم هم فقط، إذ لربما أربكت ارتداداتُها واقعَ مجتمعٍ بأكمله، وإلى مدَياتٍ بعيدةٍ جداً، ثم لا يعون ذلك كلَّه إلا حين يتجاوزون هذه المرحلة العمرية، ويعيدون قراءتَها، فإذا بالزمن لا يعود، فيقولون كما قال موسى (ع) وقد وقف في لحظة صدمة بعد أن هدأت نفسُه وانجلت الغبرة: (هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ).