خطبة الجمعة 19 ذوالقعدة 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الذين في قلوبهم زيغ

ــــ ذكرت في الخطبة الأولى نموذجاً من الآيات التي يمكن أن تتحول إلى متشابهات ويلجأ إليها الذين في قلوبهم زيغ والذين يريدون الفتنة لشرعنة جرائمهم وأعمالهم المنافية للعقل والفطرة السليمة.
ــــ ومن النماذج أيضاً التلاعب في أسباب نزول الآية، وفي تحديد الشخصيات المقصودة بها، وتوظيف ذلك كله لغايات شخصية أو حزبية أو طائفية أو غير ذلك.
ــــ فعندما تتحدث آية عن شخص، ولسنا قادرين على تعيينه، فإنها تصبح متشابهة من هذه الناحية، ويأتي أصحاب الغايات الخاصة فيوظّفونها في مصلحتهم.. ولربما كانت الآية بصدد الحديث عن نموذج من الأشخاص، لا عن شخص في الخارج على وجه التحديد.
ــــ في صحيح البخاري برقم 4550 عن يوسف بن ماهك قال: (كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يُبايَع له بعد أبيه. فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً) وعبدالرحمن هذا هو الصحابي عبدالرحمن ابن الخليفة أبي بكر، وقد أسلم قبل فتح مكة وهاجر إلى المدينة (فقال: خذوه) أي أمر باعتقاله، أي أنه قال أمراً ساء الوالي وغضب منه بشدة، وإن كانت الرواية هنا لم تذكر لنا ماهية الشيء فقد ذكرته روايات أخرى كثيرة سأتناول نموذجاً منها بعد قليل (فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا. فقال مروان: إنّ هذا الذي أنزل الله فيه [وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي]) والآية ١٧ من سورة الأحقاف كالتالي: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ). والذم فيها واضح (فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أنَّ الله أنزل عُذري). أي ما نزل في قصة الإفك في سورة النور.
ــــ وقد انزعج ابن حجر شارح صحيح البخاري من أسلوب أحد الشراح في اختصار ما قاله عبدالرحمن، فقال: (وقد اختصره فأفسده) ثم جاء ابن حجر ببعض الروايات المفصّلة للحدث.
ـــ ومراعاةً للوقت أذكر نموذجاً لما دار ورواه ابن كثير في تفسيره عن عبد الله بن المديني قال: (إني لفي المسجد حين خطب مروان، فقال: إن الله أرى أميرَ المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمرَ. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهرقلية؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحدٍ من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في وَلَده إلا رحمة وكرامة لولده. فقال مروان: ألستَ الذي قال لوالديه: أفٍّ لكما؟ فقال عبد الرحمن: ألست ابنَ اللعين الذي لعن رسول الله (ص) أباك؟ قال: وسمِعَتْهُما عائشة فقالت: يا مروان، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ كذِبْتَ، ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان. ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها حتى انصرف) وللأسف أن البعض يحذف الأسماء.
ـــ على العموم، فالآية تحتمل أن تكون قد قصَدت شخصاً معيناً، وتحتمل أنها جاءت كنموذج متكرر قد يصدر من أكثر من شخص، ولكن مروان استغل وجود هذا التشابه فيها ووظّفه انتقاماً من شخص معارض له.
ــــ نموذج آخر لما قد يصبح من المتشابهات نتوصل إليه من خلال قوله تعالى: (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ).
ـــ التأويل بمعنى الظهور والتحقق الخارجي للشيء. قال تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)[ يوسف : 100 ].
ــــ أي هذا هو التحقق الخارجي لرؤيا سجود الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر له.
ـــ مثال الآية المحكمة من حيث المعنى والمتشابهة من حيث التأويل: قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)[البقرة:207].
ـــ قال الشهرستاني في الملل والنحل أن نافع بن الأزرق قال: إن الله أنزل في شأن عبدالرحمن بن مُلجَم قاتلِ عليٍّ أمير المؤمنين(ع): (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)!
ـــ فنافع يدّعي أن الآية بَشّرت بظهور ابن ملجم في المستقبل، وأن هذا هو تأويلُها!
ــــ هكذا كان ــــ وما زال ــــ يتم توظيف تأويل الآيات لبعض المصالح الشخصية أو الحزبية أو الطائفية وأمثال ذلك.
ـــ إن أصحاب هذا النوع من الفكر السقيم الذي وصل إلى حدِّ إجلالِ وتعظيمِ عبدِالرحمنِ بن مُلجَم قاتلِ أميرِ المؤمنين علي (ع)، وتأويلِ الآيات المتشابهة من القرآن الكريم زوراً وبهتاناً لنُصرته، يُمثّل نموذجاً تأريخياً لما حذّر منه الله سبحانه بقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، وقد فرَّخَت هذه العقول السقيمة المدارسَ والاتجاهاتِ التكفيرية التي تعتمد على التعاملِ القاصرِ مع الآياتِ المتشابهة، وعدمِ رَدِّها إلى المُحكَم مِن القرآن الكريم، فشرّقَت وغرَّبَت في توجيه تُهَم الكفر حيث شاءت أهواؤها، وحيث قادتهم أفهامُهم القاصرة.. ولمّا توسَّعت تلك المدارس والاتجاهات وتضخّمت، خرجت الجماعات الإرهابية من أرحامِها، وانطلقت متحالفةً تارة مع بعض الأجهزة المخابراتية التي لا تريد ببلاد المسلمين خيراً، ومع مخلَّفات الأحزاب المادية الدموية كالبعثيين تارة أخرى، فارتكبت ما شاءت من مجازر بحق كلِّ مَن خالفها، وخلّفت مِن ورائها دماراً لا يُوصَف، سواء على المستوى المادي أو الفكري أو الإنساني. إن على العالمِ الإسلامي وهو يشهد اندحارَ الإرهابيين التكفيريين ميدانياً، السعيَ بكل جدِّية للقضاء على منابع التكفير وأسسه من خلال مشاريع علمية وتربوية وإعلامية جادة وحثيثة، لكي لا تبقى لهذا الوباء المدمِّر باقية، وعلى كل المدارس الإسلامية على تنوّعها، بما في ذلك المدرسة السلفية، التفكير بجدِّيّة لإقامةِ مراجعةٍ شاملةٍ لمتبنَّياتها العقدية والتشريعية والأخلاقية، لأن مآسي السنوات الماضية كشفت عن حجم الخلل الموجود في هذا الإرث عند
الأطراف المختلفة، وأن مستقبل الأمة مرهون بمثل هذه الخطوات الجادة التي لا محيص عنها.