خطبة الجمعة 12 ذوالقعدة 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: المشهد المقدسي


ــــ خلال الأسابيع القليلة الماضية، طغى المشهد المتأزم في القدس ـــ والمسجد الأقصى على وجه الخصوص ــــ على كثير من الأخبار السياسية والأمنية المتعلقة بالمنطقة.
ــــ رأينا في هذا المشهد كيف استطاع أبناء فلسطين الغيارى على مقدساتهم أن يُجبروا الكيان الصهيوني على التراجع عن خطواته الأمنية وقراراته التعسفية بحق المسجد الأقصى.
ـــ بالطبع فإن هذا لم يتحقق بلا ثمن، فخلال المواجهات العديدة مع قوّات الاحتلال، سقط اثنا عشر شهيداً، وفق تقرير حقوقي صادر عن مؤسسة (ضمير الفلسطينية)، واعتُقل نحو 400 فلسطيني خلال حملات دهم واسعة شنتها قوات الاحتلال، كما بلغت التشديدات الأمنية الإسرائيلية ذروتها، ووصلت إلى حدّ إعلان حالة الطوارئ، وفرض عقوبات جماعية على المقدسيين.
ـــ وبالمناسبة، فقد جاءت هذه الخطوة الصهيونية في ذكرى مرور نصف قرن بعد أوّل إغلاق إسرائيلي للأقصى عام 1976، ومن المحتمل أنها أرادت أن تختبر الإرادة الفلسطينية من جهة، والإرادة العربية والإسلامية ــــ من جهة أخرى ــــ تجاه خطواتها التصعيدية بحق المسجد الأقصى.
ــــ فماذا وجدت؟ أما إقليمياً، فالكل مشغول بنفسه ومشاكله وبالصراعات البينية:
ـــ حروب مدمرة في سوريا وليبيا واليمن.
ــــ صراع بين الأشقاء في الخليج.
ــــ تجاذبات طائفية وقومية في العراق المنهك أصلاً من الحرب ضد الإرهاب.
ـــ وعلى المستوى المحلي عندنا في الكويت، كنا نتطلع بعد صدور الحكم النهائي في قضية ما يعرف باسم (خلية العبدلي) أن يُغلق الملف، وأن يُترك للأجهزة الأمنية تنفيذ الحكم في الإطار الدستوري والقانوني.
ـــــ وإذا بالبعض يحوّل القضية إلى مفردة من مفردات الصراع الطائفي بكل مفرداته المقززة، وإفرازاته المنتنة، لننشغل بأنفسنا من جديد فيما يوهن الحالة الوطنية، ونتشاغل عن قضايا الأمة.
ــــ وعجباً كيف تناسوا أن الكويت أخذت على عاتقها الإصلاح بين الأشقاء في مجلس التعاون الخليجي، وتم السماح للأصوات النشاز أن تعلو لتخلق عداوات بين أبناء الوطن الواحد.
ـــ إن الذكرى الأليمة للثاني من أغسطس تؤكد أن خيارنا في الكويت هي الوحدةُ الوطنية لا غير، وتغليبُ مصلحةِ الوطن على الأجندات الحزبية والقبلية والتكسبات الانتخابية، وأنَّ اعتداءَ أيّ بلد على آخر لن يجر إلا الويلات، والرابح الوحيد هو العدو الحقيقي المتمثّل في الكيان الصهيوني الذي نسيناه وتشاغلنا عنه.
ــ أما مَن يرقب أوضاع الأمة من بعيد، فسيكتشف أن حالها اليوم أشبه ما يكون بحالها قبل الإسلام والذي وصفته الزهراء (ع) بقولها: (كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ... أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ}).
ــــ الكل يدرك ويتحدث عن أن ما تمر به الأمة الإسلامية والعربية اليوم يمثّل مخططاً لتفكيكها، وإضعافها، وتدمير مقدّراتها، بما يخدم مصالح الكيان الصهيوني.
ــــ ومع هذا فإن الجميع استسلموا لهذا المنزلق الخطير دون مراعاة لما هو المهم وما هو الأهم، وما وراء الفتن، وما هي غاياتها.
ـــــ وبالإضافة إلى كل هذا، هناك بعض الجهات التي تعمل على أن تؤيسنا من القضية الفلسطينية، وأن تُظهرها وكأنها عقبة أمام الخير الذي ينتظر المنطقة، فمتى ما تخلينا عنها وطوينا صفحتها حل السلام، وعاش الجميع في أمن ورخاء.
ــــ وهناك مَن يعمل على تقديم القضية الفلسطينية على أنها قضية عفا عليها الزمن، حتى أننا بتنا نشاهد كثيراً من أبناء الجيل الحالي غير مدركين لحقيقة هذه القضية وأهميتها، بل هي لا تشكل بالنسبة إليهم أية أهمية تُذكر.
ـــ ومن خلال هذا وذاك، أصبحَت جرائمُ الاحتلال الإسرائيلي في ذيل قائمة اهتمامات الأمة، وهذا ما يدفع الصهاينة من حين إلى آخر إلى إطلاق بالون اختبار، ليقيسوا من خلاله إمكانية الانقضاض الأخير الذي سيحقق أحلامهم. إنَّ مساعيَ حرفِ البوصلة عن الكيان الصهيوني باعتباره العدو الأول للأمة الإسلامية والعربية، وإشغالَنا بصورة مستمرة بقضايا طائفية وعرقية، لا يخدم سوى الصهاينة الذين يتفرّغون لارتكاب حماقاتهم، ويستفردون بالفلسطينيين لتحقيق أحلامهم المشؤومة بهدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم، وتهويد القدس، والقضاء على كل ما هو إسلامي ومسيحي فيه، ثم في كل فلسطين. إن مسؤوليتنا في هذا المقطع الزمني الحرج من تاريخ أمتنا تقتضي أن نتخلى عن عصبياتنا وتحزباتنا وعن التشاغل بتصفية الحسابات فيما بيننا، وأن نركز جهودَنا لمقاومةِ عدوِّنا الحقيقي الذي نسيناه، وأدرنا له ظهورَنا، فإذا به يأمن جانبَنا ليعبث كيف شاء.