بين عليٍّ وماركس والأشعري ـ مقال للشيخ علي حسن غلوم

تحدث كثير من الفلاسفة عن الأخلاق وفلسفتها ومنشئها، فشرّقوا وغرّبوا.. نيتشه مثلاً نظر إلى حال أفراد المجتمع من الضعفاء المغلوب على أمرهم، فوجدهم يعيشون الصبر السلبي في مواجهة عديمي الأخلاق الذين يظلمونهم ويمتصّون دماءهم ويعيشون حياة الرفاه على ركام أجساد الفقراء، فاعتبر أن العزة في القوة، والقوة عند عديمي الأخلاق، فنادى: (الأخلاق من صنع الضعفاء ليحدّوا بها من قوة الأقوياء، وأن على الأقوياء أن يسحقوا الضعفاء، ويمشوا على جماجمهم!!). والنتيجة كانت الجنون النازي الذي جلب للعالم الويلات والدمار، الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها أكثر من 100 مليون جندي، وزهقت أرواح أكثر من 70 مليون مدني وعسكري. وما زال العالم إلى اليوم يتجرع غصص الجنون النازي، ومنه المحرقة النازية لليهود والتي يُبتز من خلالها العالم في عملية تهويل إعلامية ضخّمت القضية وصارت حائط المبكى الجديد الذي يتحقق عنده الولاء والبراء، وتُلعن عنده الأمم، وتُقدَّم من خلاله صكوك الغفران السامي.
ماركس والأخلاق:
أما ماركس فاعتبر أن الأخلاق من صنع الأقوياء اقتصادياً في المجتمع، ليخدِّروا بها المستضعفين ويبقوهم تحت سيطرتهم، والواجب على الضعفاء والفقراء أن يثوروا على الأخلاق بثورتهم على الأغنياء والمتسلطين. وفي همجية وحشية متمردة على كل قيمة أخلاقية وبصورة يقلُّ نظيرها في التاريخ، راح قرابة الخمسين مليون إنسان ـ حسب بعض التقديرات ـ ضحية سياسات ستالين وحده!
الأشاعرة والأخلاق:
واعتبر أبوالحسن الأشعري أن الأخلاق من وحي السماء، ولذا فإن الفعل إنما يتصف بالخير إذا أمر الله عزوجل به، ويتصف بالشر إذا نهى الله سبحانه عنه.. ولو نهى عما أمر به أوَّلاً لتحوّل الخير إلى شر، والحسن إلى قبيح. فشريعة الله هي التي تصنع الأخلاق، ولا علاقة لها بطبيعة الحياة، ولا بفطرة الإنسان. ومن هنا كان الفهم البشري للنصوص الدينية، والأحاديث الموضوعة التي عجَّت بها كتب التراث الإسلامي، يرسمان معالم الأخلاق، ويضفيان عليها الشرعية والقدسية مهما كانت بعيدة عن الفطرة والمنطق والعقل السليم. ووفق هذه الرؤية يمكن قبول ما روي عن رسول اللّه أنه قال:(يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنّون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع). كما يمكن الأخذ بمقولة: (مَن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، بَراً كان أو فاجراً).
الأخلاق عند علي:
أما الأخلاق عند علي عليه السلام فهي أصيلة في وجود الإنسان، وليست حالة طارئة وعرضية، بل هي من صلب الحياة، ومن طبيعة الإنسان وفطرته، ودور الدين هو البيان والتحفيز، لا الوضع والتقرير، فالعمل الذي يحقق النفع الشامل والصالح العام يوصف حقيقةً بالحُسن والخير، وما يعطِّل المصلحة العامة أو يُلحق ضرراً بالجماعة أو الفرد فيوصف بالشر، فالقيم الأخلاقية صفات عينية قائمة في نفس الأفعال وطبائعها، ولا دخل في وجودها لأوامر الدين ونواهيه. ولذا قال علي عليه السلام: (فإنه لم يأمرك إلا بحَسَن، ولم ينهك إلا عن قبيح)، ومعنى هذا أن حُسن الفعل وقبحه سابقان لصدور الأمر والنهي، فالله أمر به لأنه حسن، ونهى عنه لأنه قبيح، والله خالق كل شئ سبحانه وتعالى.
الظلم ظلم:
وبهذا المنطق يُغلق الإمامُ البابَ أمام كل نص أو قانون أو تشريع لا يتوافق مع المبادئ الأخلاقية العامة التي تقرّها إنسانية الإنسان وتتوافق عليها فطرة الناس.. فالظلم ظلم ومرفوض وباطل وليس بشئ في ميزان الله، وإن ورد نص يروِّج له ويبرِّر فعله.. فإنَّ مَن خلق الإنسان وفطره على القيم الأخلاقية هو المشرِّع ذاته، وهو حكيم عدل ليس في فعله باطل، ولا في أمره حيف.
ثم يعطي للأمر بُعداً إنسانياً عاماً يؤكد من خلاله أن نتاج الظلم وإن كان في صالح الفرد أحياناً، إلا أن وباله يدوم ويعم الآخرين، ولذا قال في اليوم الثاني من تسلمه مقاليد الحكم: (ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان و كل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شي‏ء، و لو وجدته قد تُزوِّج به النساء، و فُرِّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، و من ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق). لأنَّ مَن يظلم في مورد يؤسِّس للظلم في موارد وموارد، فإذا عمَّ الظلم في ممارسات أفراد المجتمع أصيب به الجميع مرات ومرات، وفي موارد لعلها أشدّ وطئاً وأعمق تأثيراً.
نشر في جريدة الوطن بتاريخ 4 يوليو 2009