خطبة الجمعة 5 ذوالقعدة 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: نزاهة القضاء


ــــ لأمير المؤمنين علي(ع) توجيهات مُحكَمة في باب القضاء سجّلها في كتابه الذي قدّمه إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر، قال: (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ) ويبدأ الإمام (ع) بسرد معايير هذه الأفضلية:
1ـ السيطرة على الانفعالات والمشاعر: (مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الأمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُوم).
2ـ الحق والعدالة غايته: ولذا فهو لا يكابر عند الخطأ (وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَر مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ).
3ـ القناعة وعفة اليد: (وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع).
4ـ عدم الاستعجال في إصدار الأحكام، بل يحاول أن يستقصي الأمور ويتفهمها ويبحث عن أدلتها المحكَمة: (وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقصَاهُ) ومن هنا فهو (أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ) أي لا يمل من التحقق والتأكد (وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ) أمضاهم في القرار (عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ) لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يجعل للوساطات، والمحسوبيات، والانتماءات، والظروف السياسية مجالاً للتأثير على الحكم.
5ـ الفطنة والوعي للأساليب الخادعة ومحاولات التأثير على الحكم: (مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ).
ــــ وختم الإمام (ع) بقوله: (أُولئِكَ قَلِيلٌ). ثم قدّم (ع) سرداً لمجموعة من الإجراءات المهمة لإعانة القضاة على أداء مهامهم بكل حيادية، ومراقبة أدائهم توخياً للعدالة، وهي كالتالي:
1ـ (ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ) بالمراقبة وتقييم الأداء، فالقاضي ـــ في الإسلام ـــ ليس بفوق أن يُراقَب ويُحاسَب ويُثاب أو يُعاقَب. ومن هنا نجد أن علياً (ع) بادر إلى استدعاء قاضي الكوفة شريح بن الحارث الكندي حين علم أنه قد اشترى بيتاً جديداً وحذّره من أن يكون قد اشتراه من رشوة أو ما شابه، وكتب له كتاباً يتضمّن عبارات التزهيد في الدنيا والأمر بالتقوى والتحذير من عقاب الله.
ـــ وقد تحدثت قبل سنة ونصف تقريباً مؤيداً إقرار مقترح إنشاء مجلس مخاصمة القضاء.
2ـ (وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزيِلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ) كي يعيش غنى النفس ولا يُقبِل على الرشى، فإنْ أقبَل عليها فسيكون ذلك من خسة نفسه وعدم استحقاقه لهذا المقام.
3ـ (وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذلَكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ) فمن المهم أن تكون الثقة قائمة بين الحاكم العادل وبين القاضي، وأن تكون العلاقة قوية لا تزعزعها الشكوك والظنون، كضمانة إضافية على الشفافية وقبول النصيحة.
ـــ ثم أكد الإمام (ع) على أهمية الأمر وضرورة عدم التهاون فيه إذ قال: (فَانْظُرْ فِي ذلِكَ نَظَراً بِلِيغاً، فَإِنَّ هذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الأشْرَارِ، يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى، وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا).
ـــ وجاء هذا تحذيراً منه (ع) من التراخي في تنفيذ توصياته وتعليماته في هذا المجال، وإلا فإن الفساد سيجد لنفسه طريقاً من جديد ليتغلغل في جسد القضاء، ولربما استُغلّ الدين لتبرير الحيف في الأحكام، وتحوَّل إلى وسيلة للاسترزاق، والتكسّب، وطلب الدنيا، وتلبية أهواء النفس، بدلاً من أن يكون وسيلةً للتقوى، وتحقيق العدالة، واستتباب الأمن.
ـــ وتأتي حساسية هذه الوصايا والتعليمات وأهميتها من حيث أنها صدرت عن رجل الحق والعدالة، الذي قَبِل أن يقف ـــ وهو خليفة المسلمين ـــ موقف المشتكَى عليه أمام قاضي الكوفة، وخصمُه يهودي! حتى إذا خاطبه القاضي بالكُنية احتراماً، نبّهه الإمام إلى ما في هذا التصرّف من محاباة تُخِلّ بالعدالة التي يَنشُدُها!
ــــ وفي الإسلام نصوص كثيرة تتحدث عن مقوّمات القضاء، وشروطه، وآدابه، وصفات القاضي، وطريقة التحاكم، وأسلوب إصدار الأحكام، بالإضافة إلى العواقب الوخيمة للظلم في الأحكام.
ـــ ومن بين تلك النصوص ما روي عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: (مَن حكم في درهمين) أي في حدود دينار كويتي واحد، ومن الواضح أنه مبلغ بسيط وتافه ولكن الخطورة هنا أنه (بغير ما أنزل الله عزوجل ممن له سوط أو عصا) أي وكان يمتلك قوة الإجبار على التنفيذ (فهو كافر بما أنزل الله عزوجل على محمد (ص)) في إشارة إلى قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة:44].
ـــ إنَّ العدلَ في القضاء أحدُ أركانِ العَدل في المجتمع، ومن أهم أسباب تحقيق الأمن والشعور بالطمأنينة وقوة الانتماء والنهوض بالتنمية. وقد أحسن آباؤنا الذين أعدّوا الدستور الكويتي حين أقرّوا المادة الثانية والستين بعد المائة والتي تنص على أن: (شرفَ القضاء ونزاهةَ القُضاة وعدلَهم أساسُ الملك وضمانٌ للحقوق والحريات)، فإن أصابَ الخللُ جسدَ القضاء، كان ذلك بمثابة خرقٍ في جسد سفينةٍ تَمخُرُ عُبابَ بَحرٍ (لُجّي يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ).