خطبة الجمعة 5 ذوالقعدة 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: القضاء وطلب الحق


ـــ تشير بعض الآيات القرآنية إلى أن الله سبحانه وتعالى عندما كان يريد أن ينبّه الأنبياء إلى ما له علاقة بتكاملهم، فإنه كان يُدخلهم أحياناً في بعض التجارب العملية التي يكتشفون من خلالها تلك الأمور بكل وضوح.
ـــ فالمعرفة التي تنتج عن طريق التجربة الشخصية تكون أكثر وضوحاً وأعمق تأثيراً من تلك التي تنتج عن طريق المطالعة أو الدراسة أو ما شابه.
ـــ ومن هنا نجد أن الله عندما أراد أن ينبه النبي موسى (ع) إلى أنه بحاجة إلى ضبط انفعالاته النفسية، أدخله في تجربة الرحلة مع العبد الصالح والتي جاءت بعض تفاصيلها في سورة الكهف.
ـــ وهكذا، عندما أراد الله تعالى أن ينبّه داود (ع) إلى حساسية القضاء ـــ وقد كان بالإضافة إلى النبوة ملكاً وحاكماً يتقاضى لديه الناس فيحكم بينهم ـــ وضرورة التحلي بالحيادية التامة، وإقصاء أية مشاعر، أو خلفيات، أو ضغوطات، يمكنها أن تؤثر على الحكم، فإنه سبحانه أدخله في تجربة عملية حكتها سورة ص.
ـــ (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [21-23].
ـــ تأثّر داود (ع) بالإرباك النفسي الناتج من دخولهما المفاجيء، ولصورة الإنسان المظلوم التي قدّمها صاحب الشكوى، وأخذته الغيرة على الطرف المستضعَف بحسب الظاهر، فاستعجل في إبداء رأيه من خلال ما سمعه من طرف واحد، قبل أن يعطي الفرصة للمشتكَى عليه كي يُبدي رأيه، فلعل في البين كذباً، أو تدليساً، أو إسقاطاً لبعض التفاصيل المؤثّرة في الحكم وأمثال ذلك.
ـــ ولذا من آداب القضاء في الفقه أن لا يقضي وهو غضبان، ومع كل وصف يساوي الغضب مما يُشغل النفس، كالجوع والعطش والغم والفرح ومدافعة الأخبثين وغلبة النعاس.
ـــ وهناك رواية أخرى وهي من الإسرائيليات وتتلخص في أن داود (ع) أعجب بزوجة قائد عسكري وقد رآها وهي تستحم، فأرسله إلى الخط الأمامي من القتال كي يموت ويتزوج امرأته، فكانت
الشكوى كما في الآية القرآنية رمزية تشير إلى فعلته، ليحكم على نفسه.
ــــ هذه الرواية مرفوضة، فهي لا تتناسب وشأن الأنبياء (ع)، وقد روى أبوالصلت الهروي عن الرضا (ع) قوله: (إن داود (ع) عجّل على المدعَى عليه، فقال : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) ولم يسأل المدعي البينة على ذلك، ولم يُقبِل على المدعَى عليه فيقول له: ما تقول. فكان هذا خطيئةَ رسم الحكم، لا ما ذهبتم إليه) أي من القول بقصة القائد وزوجته.
ـــ نعود إلى الآيات التي تحكي ما جرى لاحقاً: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ) [24].
ــــ وفجأة انتبه داود إلى أنه قد استعجل، ولعل الله نبّهه: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ، فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) [25-24]. ثم جاء التوجيه الإلهي: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [26].
ـــ لقد اتفقت البشرية طوال التاريخ على خطورة مسؤولية القضاء، وأهمية أن تُناط بمن يملكون الأهلية لها، وأن تُحاط ببعض الإجراءات الوقائية ومجموعة من الآداب التي تحفظ لها الحياد وتتحقق من خلالها العدالة.. وللحديث تتمة في الخطبة الثانية بإذن الله تعالى.