خطبة الجمعة 27 شوال 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الموصل، وزكاة الانتصار


ــــ ذكرت في الخطبة الأولى أن لكل نتيجة إيجابية يحققها الإنسان ضريبة وفق التعبير الدارج، أو بتعبير الإمام الصادق (ع) زكاة، وهو تعبير أفضل لما يتضمنه من معنى النماء والطهارة.
ـــ وذكرت أيضاً أننا عندما نستقريء القرآن الكريم فإننا سنصل إلى نتيجة مفادها أن زكاة الانتصار لا تتوقف عند حد العفو عند المقدرة، بل تتعدى ذلك إلى عدة أمور من أهمها:
1. عدم الاسترخاء: والاستغراق في الأجواء الاحتفالية، والركون إلى النتيجة التي تحققت في الميدان. فبعد تحقيق المسلمين للانتصار في معركة بدر الكبرى بدأ المشركون بإعداد العدة لمعركة جديدة وبإمكانات أكبر.. كما واشتد عداء اليهود وزادت مؤامراتهم لتخوفهم من النمو المطّرد للمسلمين مما قد يُنهي آمالَهم في القضاء على الإسلام في قادم الأيام.. هذه ضريبة الانتصار!
ـــ ولذا، فإن سورة الأنفال التي تحدثت عما جرى في معركة بدر وظروفها، أمرت النبي (ص) والمسلمين بالتالي: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال:6].
ـــ أي لا مجال للاسترخاء، فإن تحقيق النصر في معركة لا يعني بلوغ نهاية طريق الصراع مع الباطل وأهله، بل لربما يكون مدخلاً لمزيد من التحديات الأصعب والأشد.
2. تجنب الغرور: كما وحذر القرآن الكريم من الغِرّة بالنصر، مقدّماً نموذج ما جرى يوم حنين، فلولا العناية الإلهية التي تدخلت لكانت النتيجة مأساوية.
ــــ فالمسلمون بعد فتح مكة والانتصارات التي سبقت هذا النصر العظيم في الأحزاب وخيبر، اغترّوا بالعامل المادي الذي تمثّل في الكثرة العددية، ونسوا القانون الإلهي الذي حقق لهم النصر من قَبل على الرغم من قلة عددهم حينذاك: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ) أي أصحاب البصيرة والوعي (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249].
ــــ ولذا فإنهم فشلوا في أول اختبار لهم بعد فتح مكة بثلاثة أسابيع تقريباً حين تواجهوا مع هوازن وغطفان في حنين، قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ) [التوبة:25].
3. الحذر من الظلم: فالمنتصر قد يشعر بنشوة الانتصار، فتطغى لديه مشاعر العداء تجاه الآخرين، خصوماً كانوا له أم لم يكونوا، مما قد يفقده الاتزان في القرارات والمواقف، ويرتكب ما لا يُرضي الله من صور الظلم والطغيان.
ــــ ولذا فإننا نجد أن الله عز وجل ينبّه المسلمين وهم في أوج قوتهم وانتصاراتهم إلى ضرورة التحلي بالتقوى في التعامل مع المشركين الذين لم يعادوهم، وأن لا يجعلوهم في خانة واحدة مع المعادين.
ــــ فقال سبحانه وتعالى بعد البراءة من المعاهدات المبرمة مع المشركين الذين لم يوفوا بمضامين بنودها: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:4].
ـــ وهذا ما نبّه عليه الإمام علي (ع) في كتابه إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر فكان فيما قال له: (وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوّ لَكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً) أي درعاً ووقاية (دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ عزوجلّ شَيْءٌ النَّاسُ أَشدُّ عَلَيْهِ اجْتِماعاً، مَعَ تَفْرِيقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشْتِيتِ آرَائِهِمْ، مِنَ تَعْظيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيَما بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ) أي من خلال ما تبيّن لهم من العواقب الوخيمة (فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلاَ تَخِيسَنَّ بَعَهْدِكَ، وَلاَ تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَجْتَرِىءُ عَلَى اللهِ إِلاَّ جَاهِلٌ شَقِيٌّ).
4. تذكّر اللهَ ونعمَه: قال تعالى مبيناً وظيفة الإنسان المؤمن تجاه الانتصار في المواجهة مع الباطل: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) ما هي الوظيفة حينئذ؟ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [سورة النصر].
ــــ إننا في الوقت الذي نهنيء فيه الجار العراقي لتحقيقه الانتصارَ الكبيرَ بتحريرِ مدينةِ الموصلِ وتوجيهِ الضربةِ القاصمةِ للمَسخِ وليدِ التزاوجِ بين المدرستين التكفيرية والبعثية، هذا الانتصار الذي لا تتوقف آثارُه عند الحدود السياسية والجغرافية للعراق، بل يتعدى ذلك ليشمل كلَّ موقعٍ عانى وما زال يعاني من آثار ما اقترفته الأيادي الإجرامية للإرهابيين التكفيريين.. فإننا نوجّه إلى حكومةِ العراق وشعبِ العراق وقواتِه المسلحةِ رسالةَ محبةٍ ونُصح بأن يدرسوا مفهومَ الانتصار وزكاتَه كما عرضه القرآن الكريم، وأن يدرسوا إيجابياتِ هذه التجربةِ وسلبياتِها، فيعملوا على تنميةِ نُقاطِ القوة، ومعالجةِ نقاطِ الضعف. ورسالةٌ أخرى نوجهها إلى الدول التي باركت هذا الانتصار أو أبدَت ارتياحاً لتحقُّقِه، بأن مسئوليتها لا تقف عند هذا الحد، بل يجب عليها أن تنهض من أجل القضاء على بؤر الفكر التكفيري ومنابعِ قوتِه، لتساهم بجدِّيةٍ في إنهاء هذا المشهد الدَّموي البشع الذي تئن منه البشريةُ اليومَ بفعلِ سياساتٍ وتصوراتٍ غبية أحياناً، وبفعلِ غاياتٍ خبيثةٍ أحياناً أخرى، وتمثّلت في دعم المنهج التكفيري الإجرامي، حيث حسبت أنها ستكون في منأى عن تأثيراتِها السلبية، فإذا بها تكتوي بنيرانها. وأخيراً لابد من التنديد بما اقترفه الصهاينة بحق المسجد الأقصى والمصلين والمتظاهرين مؤخراً، والدعاء بالنصر لكل العاملين على مواجهة هذه الغطرسة الصهيونية، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران:178].