خطبة الجمعة 6 شوال 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: توثيق الديون


ــــ سعى الإسلام بطرق متعددة إلى الحد من الخصومات والمنازعات في المجتمع كخطوة من خطوات إحلال السلام والأمن المجتمعي.
ــــ وواحدة من أسباب بروز الخصومات والمنازعات بين الناس الخلاف على الملكية المالية فيما بينهم نتيجة عدم توثيق المعاملات بأنواعها.
ــــ فبسبب موت صاحب العلاقة، أو فقدانه للذاكرة، أو لنسيانه، أو للؤمه، أو لغير ذلك من الأسباب يتم إنكار استحقاق الآخر لهذا المال.. ومن هنا قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ...) إلخ الآية الشريفة [البقرة:٢٨٢].
ـــــ هذه هي أطول آية في القرآن الكريم، وهي تتحدث عن ضرورة التوثيق، وفيها تسعة عشر بنداً تفصيلياً حول كاتب التوثيق، والمضمون، والضمانات، وغير ذلك، حتى قال تعالى: (وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ).
ـــــ والغاية: (ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّـهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ) أي من أجل أن تتحقق العدالة ويأخذ كلٌّ حقَّه.
ـــ قد يقول قائل: مثل هذا التوثيق يُعدم الثقة.. ألا يريد الإسلام أن يبني الثقة بين الناس؟
ــــ والجواب أن الإسلام يدعو إلى حسن ظن المؤمن بأخيه المؤمن، ويريد للثقة المتبادلة أن تسود العلاقات فيما بينهم، ولكنه يريد ــ أيضاً ــ أن يتخذ إجراءات وقائية كي يضمن استمرارية وقوة هذه الثقة، وكي لا تتعرض لما قد يُسيء إليها بسبب بعض الأوضاع والتصرفات الطارئة.
ــــ فالإيمان والتديّن لا يعنيان العصمة التي يمتنع فيها الخطأ، وتبقى للإنسان نقاط ضعفه التي تستيقظ في داخله، فتضعف إرادته وتقوده إلى الانحراف، فيخون الأمانة وينكر الحق.
ـــ الضوابط الماديّة تمثّل هنا عاملاً إضافياً للحماية من الانحراف، وتجنّب النزاعات، وإذا ما أهملها الإنسان المؤمن وتساهل فيها ثم وقع المحظور، فلا يلومنّ إلا نفسه، لأن الله سبحانه قد بيّن وحذّر، كما أن العقل يُرشد إلى ذلك أيضاً.
ــــ عن الإمام الصادق أنه قال: (أربعة لا يستجاب لهم دعوة: الرجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟! ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك؟! ورجل كان له مال فأفسده فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟! ألم آمرك بالاصلاح؟! ثم قال: [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا]. ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟).
ــــ وعنه أنه قال: (مَن ذَهَبَ حَقُّهُ عَلى غَيرِ بَيِّنَةٍ لَم يُؤجَر)، فعند المصائب والصبر عليها يؤجر الإنسان، إلا أن الإمام (ع) يبيّن هنا أن مثل هذه المصيبة لا أجر فيها، حيث كان الإنسان نفسُه هو سبباً رئيساً في حلولها من خلال إهماله ومخالفته للتوجيه الإلهي.
ـــ وصدق ربنا العظيم إذ قال: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، فهو كتاب الحكمة كما أنه كتاب التشريع، وقد قال عزّ مِن قائل: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) [البقرة:269].