هل دخلنا مرحلة الاستدراج؟ ... مقال للشيخ علي حسن غلوم

تأتي كلمة الاستدراج في المصطلح القرآني من الدرجة، بمعنى أن الله تعالى يسوق البعض إلى الهلاك شيئاً فشيئاً، تماماً كمن يرقى درج السلّم، قال سبحانه (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)(الأعراف:182-183). حيث يهيّىء الله لهم من نعيم الحياة ما يلهيهم عن التفكير، ويشغلهم عن المسؤولية والجدّية في مواجهتها، فيخيّل إليهم أنهم يمسكون بزمام الأمور كلها، وتتضخم لديهم حالة الشعور بالأهمية في الأدوار التي يمثلونها، وفي الطاقات التي يملكونها، وفي الأجواء المحيطة بهم، لاسيما إذا اقترن ذلك بتأييد الآخرين وتشجيعهم، وبذلك يتدرّجون من موقع ضلال إلى موقع ضلالٍ آخر، في ما يتقلبون به من نعمةٍ إلى نعمةٍ، لينحرفوا عن المعنى الحقيقي للمسئولية في الحياة الدنيا التي يجب أن تكون تمهيداً للحياة الخالدة في الآخرة.
من سنن الله:
ومن سنن الله تعالى أن الفرد (أو الجماعة) متى ما فتح الله عليه أسباب الهداية والنجاح والصلاح فأبى الناس إلا كفوراً وتمرداً وإفساداً، وبلغوا حداً لا أمل فيهم، لأنهم خضعوا للعقدة الشيطانية المستحكِمة، وللأهواء الشخصية العابثة، وللعناوين المحدودة الممزِّقة، فتح عليهم أبواب النعم إمعاناً في إضلالهم واستدراجاً لهم، قال عز اسمه (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:44-45). ومن المناسب أن نؤكد على أن (قطع الدابر) لا يعني بالضرورة نزول حجارة من السماء أو انشقاق الأرض وابتلاع ما عليها، بل قد تكون بفتن اجتماعية أو اقتصادية أو أمنية تدمِّر كل شئ، فما قيمة بلد لا تسمع في أصدائه إلا أزيز الرصاص، ولا ينام أهله إلا على أصوات عجلات المصفحات، ولا يستيقظون إلا على فجائع الموت والدمار؟
أحاديث ذات علاقة:
ـ عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد في الدنيا ـ وهو مقيم على معاصيه ـ ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله " فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ").
ـ وعن الإمام علي عليه السلام: (يا بن آدم، إذا رأيت ربك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره).
ـ وعن الإمام علي الهادي عليه السلام: (إن قنبراً مولى أمير المؤمنين عليه السلام دخل على الحجّاج بن يوسف، فقال له: ما الذي كنت تلي من علي بن أبي طالب؟ فقال: كنت أوضّيه، فقال له: ما يقول إذا فرغ من وضوئه، فقال: كان يتلو هذه الآية: "فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". فقال الحجاج: أظنه كان يتأولها علينا؟ قال: نعم. فقال: ما أنت صانع إذا ضربت علاوتك ـ أي رأسك ـ؟ فقال: إذن أسعد وتشقى. فأمر به).
أخوف ما أخافه:
وأخوف ما أخافه أننا في الكويت قد دخلنا مرحلة الاستدراج.. فالنعم التي أنعم الله بها علينا وفيرة، لا على المستوى الاقتصادي فحسب.. ففي الوقت الذي كانت ـ وما زالت ـ بعض المجتمعات القريبة منا تعيش نظاماًَ بوليسياً رهيباً، كان الكويتي ـ وما زال ـ يتمتع بحرية النقد والتعبير.. وبينما تعيش دول عديدة الحرمان من دستور ينظّم حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والثقافية، فإن الكويت منذ 1962 تتمتع بدستور راق وإن أبدى البعض شيئاً من الملاحظات عليه.. ودول كثيرة لا تعرف المشاركة الحقيقية للشعب في الحكم، تنعم الكويت ببرلمانها الذي يُنتخب أعضاؤه بإرادة الشعب دون تزوير أو تلاعب بالنتائج.. وهذه كلها نعم لا يعرف حجمها إلا من فقدها.
مشاركة شعبية أصيلة:
ولابد من التأكيد أيضاً إلى أن المشاركة الشعبية عندنا في الكويت ليست حالة طارئة، ولا مستوردة، ولا وسيلة لخداع الشعب، بل هي أصيلة راسخة في وجدان الفرد الكويتي، وإلى هذا الفرق بين الصورتين أشار الأديب الراحل عباس محمود العقاد في مقال له بعنوان (الديمقراطية الإنسانية) فقال: (إن شريعة الإسلام كانت أسبق الشرائع إلى تقرير الديمقراطية الإنسانية، وهي الديمقراطية التي يكسبها الإنسان لأنها حق يخوِّله أن يختار حكومته، وليست حيلة من حيل الحكم لاتقاء شر أو حسم فتنة، ولا هي إجراء من إجراءات التدبير تعمد إليها الحكومات لتيسير الطاعة والانتفاع بخدمات العاملين وأصحاب الأجور).
وهذه نعمة أخرى، البعض لا يدرك قيمتها، ويحسب أن استمرارها مع (الخربطات) التي يمارسها البعض من النواب ومن المسئولين في السلطة التنفيذية دليل على خلودها، وهذه ذات الصورة التي قدّمتها الآيات القرآنية عن الفرد أو المجتمع المستدرَج.. وإلا ما معنى أن لا تصمد وزارة أكثر من شهرين، ولا يمكن لمجلس أمة أن يستمر لأكثر من عام؟!! مع كل الصراخ الذي يغلب العقل والحكمة.
وإذا كان الشعب لا يملك اختيار الوزراء، فإنه يملك اختيار أعضاء مجلس الأمة، ووظيفتنا أن نمارس هذا الحق بشكل مسئول، وأن ندفع الناس ليمارسوه بشكل مسئول، حتى لا يأتي اليوم الذي ينتهي فيه الاستدراج وتبدأ العقوبة لا سمح الله.

نشر المقال بجريدة الوطن الكويتية بتاريخ 28 مارس 2009