خطبة الجمعة 28 رمضان 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الهزيمة النفسية


ــــ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). البقرة:214.
ـــــ توالت الآيات والسور الشريفة في العهد المكي في تقديم جوانب من سيرة الأنبياء (ع) والتحديات والصعوبات التي كانوا يواجهونها خلال مهامهم الرسالية.
ـــ هذه الصعوبات والتحديات كانت تستوجب منهم تقديم التضحيات على المستوى البدني والنفسي والمالي وغير ذلك.. وقد تستمر الفئة المؤمنة في صمودها ومقاومتها، وقد تتعب فتتراخى، وقد تتراجع وتنهزم، حتى تصل الحالة إلى الصورة التالية:
ــــ قال تعالى: (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) [المائدة:21]. وهذا كان بحاجة إلى تقديم تضحيات وصبر، فهو ليس دخولاً عادياً، بل مواجهة عسكرية مع طرف قوي وشرس، فماذا كان موقفهم؟ موقف الغالبية: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) [المائدة:22].
ــــ ومن بين عشرات الآلاف الذين حُمّلوا المسؤولية: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة:23]
ـــ والجواب النهائي: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة:24-25].
ـــ والنتيجة: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة:26]. هذه هي العقوبة على موقفهم المتخاذل وعدم الاستعداد لتقديم التضحيات.
ــــ كان الأمر بحاجة إلى استبدال ذلك الجيل بجيل آخر مستعد للتضحية للوصول إلى الغاية.
ــــ فإن الشيء الذي كانوا يطلبونه، وخرجوا من أجله، وكان بإمكانهم الحصول عليه بالتسديد الإلهي وبالثقة بالوعد الإلهي، أضاعوه من بين أيديهم، ولمدة طويلة سيعانون فيها ما يعانون.
ـــ هذه الصور التاريخية حملت رسائل تحذيرية للمسلمين لئلا يكرروا ذات الخطأ مع النبي (ص).
ــــ وكأن الآية تقول لهم: أيها المسلمون.. لقد نجوتم من بطش المشركين بمكة وطغيانهم، كما نجَى بنو إسرائيل من بطش وطغيان فرعون وملأه، إلا أن هذا ليس نهاية المطاف.. مسيرتكم الجهادية لم تنته.. مسيرة التضحيات لم تنتهِ.. فلا تتراخوا، ولا تهِنوا، ولا تستسلموا، ولا تخذلوا النبي.
ــــ طبيعة تلك التضحيات ستختلف في ما بعد الهجرة عن المرحلة المكية، ولكن الأمر سيّان.. فلا تركنوا إلى الراحة والترف، وتوقعوا الخسائر بأنواعها، فأنتم مقدِمون على تجربة صعبة جداً.
ـــ هذه التجربة ستتطلب الكثير من التضحيات والصبر والمقاومة، فإن لم تفعلوا فإن سنن الله في التاريخ لن ترحمكم، وستعيشون متاهات الضعف والحرمان إلى أن يأتي جيل آخر مستعد لتقديم التضحيات للوصول إلى الغاية: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)[محمد:38].
ــــ ومن هنا، فإننا نجد أن جانباً مهماً من الحرب الدعائية والنفسية التي يمارسها العدو والمنافقون من خلال وسائل الإعلام الخبرية هي التركيز على الخسائر وتضخيمها، والتظاهر بالتباكي عليها، دون الإنجازات والانتصارات التي يحققها أصحاب الحق والمقاومون للباطل.
ـــ وهذه الحرب الدعائية التي تمارسها هذه الأطراف تهدف الى خنق روح المقاومة لدي الأمة، وهزيمتها نفسياً حتى قبل أن تبدأ المواجهة.
ـــ وللأسف فإن الأمة الإسلامية ــــ في غالبيتها ــــ وفي مواجهة بطش وطغيان الصهاينة الغاصبين وقعت أسيرة هذا الفخ المنصوب لها، وانهزمت نفسياً حتى صارت فكرة المقاومة وتحرير الأرض المحتلة عند الكثيرين مجرد أحلام ومن وحي الخيال.
ــــ وحتى عندما نجحت بعض صور المقاومة وحققت المعادلة الصعبة على الأرض، بالدم.. بالتضحيات الجسيمة.. عمدت بعض الأطراف ساعيةً إلى وأد هذه التجربة الفريدة وخنقها!
ــــ الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع أن النتائج لا تتحقق من دون تضحيات.. بالنفس والمال والولد والراحة..
ــــ اقرأوا التاريخ وأخبرونا: متى وأين وجدتم تحقيقاً للنصر على الطغاة والجبارين.. متى وأين وجدتم تحريراً للأرض من أيدي المغتصبين.. دون تقديم التضحيات، ودون صبرٍ على الآلام وتجرعٍ للغصص، ودون أن تأتي الباساء والضراء وتتزلزل النفوس والأرض من تحت الأقدام، ودون أن تضيق الآمالُ إلى المستوى الذي يتساءل فيه الناس: متى نصر الله؟ ألم تقدم الجزائرُ مليون نفسٍ في طريق استقلالها من الاحتلال؟ ألم تقدم فرنسا في ثورتها الشهيرة مليوني نفسٍ في سبيل الخلاص من الحكم المتسلط؟ ألم تضطر أوروبا وحلفاؤها إلى تقديم الملايين من أبنائها في سبيل مواجهة النازية خلال الحرب العالمية الثانية؟ ألم يقدّم العراق مئات الآلاف من أبنائه ضحايا مقاومة الطاغوت البعثي؟ إن مقاومة الاحتلال ومواجهة الطواغيت أمر مقدس وفي صميم روح وثقافة كل الأمم عَبر الأزمنة، مهما كانت الخسائر والتضحيات. إن يوم القدس العالمي هو يوم نذكّر فيه العالَم أن الخسائر ليست المعيار في تقييم نتائج مقاومة الاحتلال ومواجهة الطواغيت، وأن انعدام ثقافة المقاومة عند الأمم يعني أن تخسر الإنسانيةُ إنسانيتَها إلى الأبد، وأن تتحول الأرضُ إلى غابةٍ لا يحكمها إلا المتوحشون.