خطبة الجمعة 7 رمضان 1438: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: غياب حس المسؤولية


ـــ عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ) ثم بدأ النبي (ص) يقدم بعض الأمثلة على ذلك قائلاً: (الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ ومَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)، ثم أضاف الراوي: (وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ).
ــــ المسؤولية جزء من الوجود الإنساني.. لأن الإنسان مختار، وما دام مختاراً فلا بد وأن يكون مسؤولاً.. هذه هي المعادلة بكل بساطة.
ـــ ولكن هناك مجموعة من العوامل التي يمكنها أن تفرّغ الإنسان من الإحساس بالمسؤولية، ومن بينها المفاهيم المغلوطة الناشئة عن التربية الخاطئة، أو نتيجة محاكاة وتقليد البيئة المحيطة.
ــــ في كتابه (العرب.. وجهة نظر يابانية) كتب (نوتوهارا) وهو ياباني عاش وتجول في بلاد العرب لمدة أربعين عاماً، ودوّن مجموعة من الملاحظات كنتاج لهذه المعايشة والمقارنة بمجتمعه، قال في ما يخص موضوع المسؤولية: (الكاتب المعروف يوسف إدريس زار اليابان عدة مرات. ولقد قال إنه كان يبحث عن سر نهضة اليابان التي أدهشت العالم... وبعد الزيارة الثالثة سئل: هل وجدت الإجابة في اليابان؟ قال: نعم، عرفت السبب. مرة كنت عائداً إلى الفندق في وسط طوكيو حوالي منتصف الليل، ورأيت عاملاً يعمل وحيداً، فوقفت أراقبه، لم يكن معه أحد ولم يكن يراقبه أحد، ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة كما لو أن العملَ ملكُه هو نفسُه. عندئذ عرفت سبب نهوض اليابان وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة ولا قَسر. عندما يتصرف شعب بكامله مثل ذلك العامل، فإن ذلك الشعب جدير بأن يحقق ما حققتموه في اليابان).
ــــ ثم يأتي المؤلف بمثال مقارن قال: (أذكر حادثة بسيطة للغاية موجودة على نطاق واسع. في عاصمة عربية ذهبت لأزور صديقاً عربياً، وعندما وصلت إلى الحي الذي يسكنه فاجأتني القاذورات وفضلاتُ الطعام وكافةُ أشكال النفايات وأكياسُ الزبالة. كانت منشورة بعشوائية على الأرض، والشارع والزوايا. على أي حال، وصلت إلى البناية التي يسكن فيها ذلك الصديق. المدخل كان قذراً والدرَج أيضاً، ولكن لدهشتي فقد وجدتُ عالَماً آخر خلف باب صديقي. كان البيت نظيفاً للغاية وكان مرتباً وأنيقاً ومريحاً. لقد فهمت أن كل ما يخص الملكية العامة يعامله الناس كأنه عدو فينتقمون منه، ولذلك نجد المقاعدَ في الحدائقِ العامةِ مكسّرة أو مخلوعة، ونجد معظمَ مصابيحِ الشوارعِ محطمة، كما أن دورات المياه العامة قذرة بصورة لا توصف. وحتى المباني الحكومية فقد لحق بها كل أنواع التخريب الممكنة).
ـــ ثم يتحدث كيف أن تدمير الممتلكات العامة هو نوع من التعبير عن الغضب على السلطة الحاكمة في تلك البلدان، وأن الفرد حين يدمرها يغفل عن أنه إنما يدمّر ممتلكاته في نهاية المطاف فهي قد وضعت لخدمته.
ـــ بالطبع من الخطأ أن نفسر هذا السلوك التدميري بهذه الصورة على الدوام، ولكنها جزء من الصورة في كثير من البلاد العربية، ومرد ذلك ترسب المفاهيم الخاطئة تربوياً أو بالمحاكاة.
ــــ بكل بساطة تستطيع أن تكتشف مدى تحمل أبناءك للمسؤولية.. عندما يغادر أحدُهم المنزل وقد ترك باب غرفته مشرعاً، وترك الإضاءة، والغرفة إجمالاً مبعثرة.. ثيابه التي استبدلها.. حاجاته الخاصة.. اتكالاً على أن هناك من سيرتب الغرفة، ويطفيء الإضاءة، ويوصد الباب.. من الواضح هنا غياب حس المسؤولية عند هذا الفرد.
ــــ وعندما يركب سيارته، فيخرج ما بها من قمامة، ويلقيها على الأرض مقابل المنزل، اعتماداً على وجود من سينظّف هذا المكان لاحقاً.. من الواضح هنا غياب حس المسؤولية عند هذا الفرد.
ـــ اليوم من أهم أسباب غياب حس المسؤولية الاستغراق في أجواء اللعب واللهو والترفيه.
ــــ وللأسف دخَلت الحكومة على الخط أيضاً، وعمّقت هذا الخلل من خلال التوظيف الوهمي الذي لا يُنتج من خلاله الشاب أي شيء، بل لا يجد له مكتباً، وكل ما يفعله أن يأتي أول الوقت ليبصم وآخر الوقت ليبصم من جديد.. وحتى البصمة وجدوا لها طرقاً لتزويرها فتكاسلوا عن الحضور لها.
ـــ الآن مثل هذا الفرد لو دخل بيت الزوجية فاقداً للإحساس بالمسؤولية.. ألن يكون ذلك من عوامل فشل التجربة الحياتية الجديدة؟ على مستوى اقتصاد الأسرة، وتوفير احتياجاتها، وتأمين الأجواء والبيئة النفسية الإيجابية، ونزع فتيل الأزمات، ومعالجة مواطن الخلل، وتربية الأبناء، وما إلى ذلك.
ـــ أحياناً نجد بعض الأزواج الشباب في بدايات حياتهم الزوجية ينشغل مع أصدقائه بعيداً عن بيته.. والسبب يعود أحياناً إلى أنه يهرب بهذه الطريقة عن المسؤولية، لأنه من الأساس لم يتعود عليها عندما كان صغيراً.
ــــ وهكذا عندما نجد الزوجة الشابة أحياناً تستغرق في النوم لما هو فوق المعدل.. هذه محاولة للهروب من المسؤولية أيضاً. وكذلك عندما تشترط وجود خادمة في البيت وهما فردان فقط.
ـــ للأسف بعض أولياء الأمور بعد انكشاف هذه الحالات السلبية يساعدون على استمرارها لا على معالجتها، وذلك من خلال التدخل بإنجاز مسؤوليات الأبناء في بيت الزوجية.
ـــ فالأم تذهب إلى مسكن ابنتها ولربما تجلب معها الخادمة وتبدأ تنظف وترتب الشقة.. هذا ليس حلاً، وهي لا تساعد ابنتها هنا في بناء وترتيب حياتها الزوجية، بل تساهم في تدميرها.
إننا بحاجة إلى إعادة النظر في المنظومة القيمية التي نزرعها في أبنائنا، فهي باتت تشتمل على عدد من الفراغات التي تحتاج إلى أن يُعاد ملؤها بالقيم التي لما غابت صرنا نعاني من آثار غيابها وتبعات ذلك. والإحساس بالمسؤولية وتحمُّلُها واحدة من أهم القيم التي لابد من إعادة موضعتها في تلك المنظومة، ويمكن للشعار النبوي (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) أن يكون المنطلق الذي يبيّن حجم المسألة ومدياتها لنخطط على أساس ذلك كيف نعيد تلك القيمة إلى وضعها الصحيح.